يشهد الحقل السياسي الفلسطيني في هذه الأيام جدلا غير معهود يمس قضايا إستراتيجية كمرجعية النظام السياسي الفلسطيني وموئل صناعة القرار الوطني. وهذا الجدل، وإن كان نخبوياً وخفياً على المواطن العادي، إلا أنه مصيري وحاسم، لأنه يعيد ترتيب الأولويات والاختصاصات بين منظمة التحرير والسلطة الوطنية وحركة فتح والدولة الفلسطينية، وعلاقة ذلك بمستقبل المصالحة الوطنية، خصوصاً بعد الاعتراف الأممي بفلسطين دولة غير عضو؛ وهذا الاعتراف أضاف تعقيداً جديداً الى نظام سياسي معقد ومأزوم في الأصل، لا سيما من جهة مرجعية الشعب الفلسطيني وموئل صناعة القرار وتحديد مستقبل القضية بشكل عام.
منذ قيام منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964، تم التعامل معها كتجسيد للكيانية السياسية الفلسطينية وممثلا لجميع الفلسطينيين، وقد تمت هيكلة المنظمة بما يؤهلها للإحاطة بجميع مناحي حياة الفلسطينيين. في تلك المرحلة كانت المنظمة البيت للفلسطينيين كلهم، والنظام الذي يستوعب الفصائل والأحزاب والجمعيات كلها بغض النظر عن أيديولوجيتها وسياستها. ومن هذه الصفة التمثيلية لم تغلق المنظمة أبوابها أمام أي مواطن فلسطيني أو فصيل فلسطيني يسعى للنضال من أجل التحرير، بل ذهب ميثاق المنظمة أبعد من ذلك معتبراً أي فلسطيني هو عضو تلقائي في المنظمة، وهو أمر قد يبدو متناقضاً مع مبدأ حرية الانتماء، ولكن يمكن تفهم هذا الأمر إذا عرفنا أن المنظمة لم تضع شروطاً للانتماء إليها، إذ نصت المادة الرابعة من الميثاق الوطني على ما يلي: «الفلسطينيون جميعاً أعضاء طبيعيون في منظمة التحرير الفلسطينية يؤدون واجبهم في تحرير وطنهم قدر طاقاتهم وكفاءاتهم، والشعب الفلسطيني هو القاعدة الكبرى لهذه المنظمة». وبهذه الصفة التمثيلية تمكنت المنظمة من الحصول على اعتراف عربي ودولي بها عام1974، فأصبحت عضوا في جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وغيرهما من المنظمات الإقليمية، وعضواً مراقباً في هيئة الأمم المتحدة، وأصبح لها أكثر من مئة سفارة ومكتب تمثيل في العالم.
شكل إعلان وثيقة الاستقلال في دورة المجلس الوطني في الجزائر في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1988 منعطفاً استراتيجياً في نهج المنظمة وخياراتها السياسية؛ فلأول مرة تعترف منظمة التحرير بوضوح بقرارات الشرعية الدولية وتعلن أن هدفها إقامة دولة في الضفة والقطاع على أساس هذه القرارات. ومع أن «إعلان قيام الدولة» حضي باهتمام شعبي ودولي، بل إن منظمة التحرير تقدمت بطلب للأمم المتحدة لتعتمد كلمة فلسطين بدلا من منظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني، إلا أن ذلك لم يغير واقع الصفة التمثيلية للمنظمة ولا دورها القيادي، حيث بقي «إعلان قيام الدولة» مجرد حالة معنوية، ومؤشراً على توجه سياسي ما زال بحاجة لإنضاج.
انقلاب السلطة على المنظمة
أوجد اتفاق أوسلو الذي وقعته منظمة التحرير مع إسرائيل عام 1993 انشقاقاً كبيراً بين الفلسطينيين، وخلخل مرتكزات النظام السياسي الذي أسسته له منظمة التحرير طوال ثلاثة عقود، ويبدو أن الثوابت التي حافظ عليها النظام السياسي الفلسطيني هي أقل بكثير من المتغيرات التي طرأت عليه. ومع أن تأسيس السلطة جاء بقرار صادر عن المجلس المركزي الفلسطيني في دورته المنعقدة في 10ـ12/10/1993 في تونس، إلا أن النظام السياسي الفلسطيني في ظل سلطة الحكم الذاتي أصبح يعيش علاقة ملتبسة وشائكة بين المنظمة والسلطة، على الرغم من أن قوة السلطة الوطنية كانت مستمدة من امتلاكها سلطة واقعية على الأرض، ولكونها مصدراً مالياً وإعاشياً لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة، بل ولمنظمة التحرير ومؤسساتها وقياداتها، (هناك بند في ميزانية السلطة مخصص لمنظمة التحرير). إلا أن قوة منظمة التحرير كانت نابعة من صفتها التمثيلية للشعب والتي تعترف بها الأمم المتحدة الدول العربية والإسلامية، كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.
انقلبت السلطة على منظمة التحرير كمشروع حركة تحرر وطني. لسنوات والشعب – على الرغم من تخوفات بعض القوى والشخصيات الوطنية وشكوكها – يتعامل مع السلطة الوطنية على أنها أداة موقتة تساعد الفلسطينيين على إنجاز المشروع الوطني بالطرق السلمية بديلاً من خيار الحل العسكري، أو هي أداة المشروع الوطني في مرحلة تاريخية يتم فيها الانتقال من مرحلة الكفاح المسلح والمقاومة كخيار استراتيجي إلى مرحلة الحل السلمي من خلال اتفاقية سلام تقول إنها ستحقق بالسلام الأهداف الوطنية التي كان الفلسطينيون يرومون تحقيقها بالمقاومة المسلحة. وبالتالي لم يكن قبول الشعب السلطة والتعامل معها بدافع تحسين مستوى المعيشة، فالوضع الاقتصادي والمعيشي لفلسطينيي الداخل كان أفضل مما هي الحال عليه في غالبية الدول العربية، فلم يكن الفلسطينيون يعرفون شيئاً يسمى حصاراً اقتصادياً أو مشكلة راتب أو مشكلة بطالة. كانت مشكلة الشعب، وما زالت، هي غياب الحرية والرغبة في الاستقلال الوطني، ومن هنا فإن الحكم على جدوى أو عدم جدوى نهج التسوية ووجود سلطة فلسطينية يكون من خلال الخطوات التي قطعتها سلطة التسوية نحو تحقيق الحرية والاستقلال أو إنجاز المشروع الوطني. والواقع يقول إن نهج التسوية السائد، كما هو شأن بممارسات السلطة القائمة، جعل المشروع الوطني أبعد منالا، والوضع الاقتصادي أكثر بؤساً مما كان عليه قبل وجود السلطة.
حماس والمنظمة والسلطة: تنازع المرجعيات
بقيت منظمة التحرير تحتكر الصفة التمثيلية للشعب الفلسطيني حتى ظهور «حماس». لم يتبلور موقف واضح لـ«حماس» من المنظمة، إذ تفاوتت المواقف ما بين القبول المشروط بالمنظمة والرفض، وبينهما مواقف غامضة كانت تحدد حسب العلاقات بين الطرفين. فميثاق حماس أشار للمنظمة بصورة غامضة عندما نص على أن «المنظمة من أقرب المقربين إلى حركة المقاومة الإسلامية، ففيها الأب والأخ أو القريب أو الصديق، وهل يجفو المسلم أباه أو أخاه أو قريبه أو صديقه؟ فوطننا واحد ومصابنا واحد ومصيرنا واحد وعدونا مشترك»، ولكن هذا القول المطمئن يتلاشى عندما يرفض الميثاق الطابع العلماني للمنظمة بالقول «إننا لا نستطيع أن نستبدل إسلامية فلسطين الحالية والمستقبلية لنتبنى الفكرة العلمانية … ويوم تتبنى المنظمة الإسلام كمنهج حياة فنحن جنودها ووقود نارها التي تحرق الأعداء».
كانت ممارسات حركة حماس على الأرض تشي بأنها صاحبة مشروع بديل من المنظمة، وقد تأكد ذلك بعد الانتخابات التشريعية في كانون الثاني/ يناير 2006. لم يكن فوز الحركة في الانتخابات التشريعية مجرد فوز لحزب على بقية الأحزاب في ظل نظام سياسي مُتفق على ثوابته ومرجعياته، بل كان توظيفاً لأداة ديموقراطية الانتخابات للانقلاب على النظام ذاته. كان فوز حركة حماس الزلزال، ليس من حيث اكتساح الحركة أغلبية مقاعد المجلس التشريعي، بل من حيث التداعيات القانونية والإستراتيجية لهذا الفوز على مجمل الصراع في المنطقة، وعلى المرجعية القانونية والشرعية للشعب الفلسطيني، وهو الموضوع الذي لم يتطرق إليه المحللون إلا قليلا.
لو كان الفوز من نصيب حزب من أحزاب منظمة التحرير فإن الأمر ما كان ليثير إشكالات كثيرة، ولو فازت حماس واتخذت موقعها كحزب معارض في المجلس التشريعي واستمرت السلطة في أيدي حركة فتح أو تحالف فصائل منظمة التحرير أيضاً، لكان الأمر قابلا للتعامل معه ضمن الثوابت والمرجعيات المؤسسة والمسيِّرة للنظام السياسي. ولكن مَن فاز هو حركة حماس التي هي خارج منظمة التحرير وخارج النظام السياسي ولها ميثاقها الخاص بها، والذي يعتبر بديلا من ميثاق منظمة التحرير، والأهم من ذلك أنها حركة تمثل امتداداً لجماعة الإخوان المسلمين، ما وضعها – خصوصا في ظل ما يسمى «الربيع العربي» – في شبكة من التحالفات والعلاقات وجداول الأعمال الخارجية المختلفة عن شبكة علاقات منظمة التحرير وتحالفاتها التي يُفترض أنها تقود النظام السياسي، مع أن فوز حركة حماس بهذه الانتخابات التشريعية لا يمنحها الحق تلقائياً بادّعاء تمثيل الشعب الفلسطيني كله، وخاصة أن الانتخابات هي لأعضاء المجلس التشريعي من فلسطينيي الضفة والقطاع، إلا أنها كشفت عن توازنات جديدة للقوى في الساحة الفلسطينية، وكشفت مأزق فصائل منظمة التحرير، لا سيما حركة فتح العمود الفقري للمنظمة.
من حق حركة حماس أو غيرها التطلع إلى قيادة الشعب الفلسطيني، إلا أن ما يؤخذ على الحركة أنها منذ تأسيسها لم تكن جادة في أن تصبح جزءا من منظمة التحرير ومن المشروع الوطني، بل كانت تتطلع لتكون بديلا، وبالتالي كانت مواقفها وممارساتها معارضة بل معيقة لجهود المنظمة لتفعيل ذاتها أو التقدم نحو تحديث النظام السياسي وتطويره. ويؤخذ على حركة حماس أيضاً أنها تتحدث عن بديل من المنظمة وليس تفعيلها، ما يعزز حالة الانقسام والقطيعة، خصوصا في ظل وجود «كيانين» سياسيين منفصلين في الضفة والقطاع. كما أن عدم وضوح البعد الوطني عند الحركة وتركيزها على الايديولوجيا الإسلامية يؤسسان لحالة من القلق والخوف عند الوطنيين الفلسطينيين من فصائل منظمة التحرير، الأمر الذي يطرح تساؤلا عن قدرة حركة حماس على التعايش والقبول بحركات وتيارات ليبرالية ويسارية وعلمانية تختلف أيديولوجيا مع حماس.
الاعتراف بالدولة والنصر في غزة وآفاق المصالحة
في شهر واحد من عام 2012 تحدث كل من طرفي المعادلة الفلسطينية «فتح» و«حماس» عن تحقيق انتصار لنهجه وخياره السياسي. حركة حماس تحدثت عن نصر بوصول صواريخها إلى تل أبيب والقدس، ما يؤكد في نظرها نجاح خيار المقاومة وصحته. وفي الجهة المقابلة، تتحدث منظمة التحرير عن «نصر» الاعتراف بفلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة. وعلى الرغم من حالة التفاؤل الكبيرة بقرب إنجاز المصالحة الوطنية بسبب حالة التفاعل الجماهيري مع الحدثين ومباركة كل طرف للطرف الآخر نصره، إلا أنه خلف هذه المشاعر المتفائلة فإن نصر حركة حماس أدى إلى مزيد من تكريس «كيان غزة» كحالة سياسية قائمة بذاتها، وتم توظيف النصر لتحسين بل والتشدد في شروط «حماس» للمصالحة، كما أن النصر السياسي في الأمم المتحدة سيفرض تحديات على منظمة التحرير ومجمل النظام السياسي، حيث عزز هذا النصر موقف الرئيس «أبو مازن» وخيار السلام الذي يؤمن به، وهو الأمر الذي قد يؤدي تدريجاً إلى تهميش دور المنظمة بحيث ستصبح «الدولة» مرجعية للفلسطينيين. وبالإضافة إلى ما سبق، فإن الاعتراف بفلسطين دولة غير عضو سيطرح إشكالات قانونية وسياسية ذات صلة بمكانة منظمة التحرير ودورها المستقبلي وعلاقتها بالدولة من جانب، وبالسلطة من جانب آخر، وأيضاً علاقتها بحركة حماس التي لا تعترف علناً بإسرائيل وبمرجعية الأمم المتحدة وقراراتها كأساس لحل الصراع مع الإسرائيليين.
إن تعدد المرجعيات والجهات المتنازعة على تمثيل الشعب أو التي تتحكم في حياته اليومية، بالإضافة إلى ترسخ الانقسام الجغرافي والأيديولوجي، يطرحان تحديات كبيرة على ملف المصالحة الوطنية. ما قبل صدور القرار الأممي بالاعتراف بفلسطين دولة مراقب كان الاشتغال على مصالحة تؤسس على قاعدة إعادة بناء منظمة التحرير التي تستوعب الكل الفلسطيني، يشكل مدخلاً مناسباً لمصالحة متحررة من الضغوط الإسرائيلية والأميركية ومن شروط اللجنة الرباعية، وهو مدخل أفضل من الاشتغال على مصالحة لإعادة توحيد الضفة والقطاع في إطار سلطة واحدة مدخلها الانتخابات، فهذا أمر لا يعود للفلسطينيين وحدهم، لأن إسرائيل عامل محدد وشرط لازم بسبب الجغرافيا والاحتلال. كما أن هذه المصالحة ستصطدم بشروط اللجنة الرباعية وبضغوط الجهات المانحة ومطالبها. إلا أن صدور القرار الأممي دفع القيادة للاهتمام باستحقاقات الدولة أكثر من اهتمامها بمنظمة التحرير، ونعتقد أن هذا الأمر سيزيد معيقات المصالحة، وسيدفع حركتي فتح وحماس إلى تفاهم ضمني وصامت على مصالحة تفضي إلى إدارة الانقسام.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر ـ غزة.