في الحادي عشر من نوفمبر 2004 توفي ياسر عرفات، وإن كانت لجان التحقيق: الفلسطينية والسويسرية والروسية والفرنسية التي تشكلت لم تُعلن نتائج قاطعة عن سبب الوفاة وبالتالي عن الجهة المسؤولة، إلا أن رئيس لجنة التحقيق الفلسطينية توفيق الطيراوي قال في مؤتمر صحفي عُقد يوم 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2013 في رام الله إن “التقرير العام الروسي والسويسري يؤكدان أن أبو عمار لم يمت بسبب تقدم السن ولم يمت بسبب المرض.. أبو عمار لم يمت موتاً طبيعياً” مشيراً إلى أن “إسرائيل هي المتهم الأول والأساسي والوحيد في قضية اغتيال ياسر عرفات. وفي 11 نوفمبر 2019 قال الطيراوي إن “الذي يقف وراء قتل أبو عمار هي إسرائيل، ولكن نحن نبحث عن الأدلة”.وإلى اليوم لم يتم التوصل إلى الأدلة ولم يتم اتهام إسرائيل رسمياً بجريمتها .
نؤكد هنا أن الموضوع ليس الافتقار إلى الأدلة والقرائن بل إلى إرادة سياسية لتوجيه الاتهام مباشرة إلى إسرائيل التي سبق وحاولت اغتيال أبو عمار أكثر من مرة وقد اعترفت بذلك، كما اعترفت باغتيالها قيادات فلسطينية وازنة من كل الفصائل بل وافتخرت بذلك، وإسرائيل التي اغتالت القدس واعتبرتها عاصمة لها والقدس أكبر وأهم من أبو عمار لن تتورع عن اغتيال أبو عمار، وقبيل وفاة أبو عمار كان شارون دائم التهديد والتصريح بعد فشل لقاء كامب ديفيد 2 وانتفاضة الأقصى 2000 ثم اجتياح الضفة الغربية 2002 بأنه سيتخلص من أبو عمار وقد ردت الإدارة الأمريكية على شارون بالقول بأنها تؤيد التخلص من عرفات ولكن ليس جسدياً، وآنذاك تم شن هجمة شرسة على أبو عمار لاغتياله سياسياً سواء باتهامه بالإرهاب والفساد أو بتقليص صلاحياته الدستورية وكف يده عن التصرف بالموارد المالية للسلطة، وشارك في هذه الحملة فلسطينيون بل وفتحاويون، أيضاً العرب من خلال رفضهم أن يخاطب شعبه والعالم وهو محاصر عبر الهاتف أو الفيديو في مؤتمر قمة بيروت 2002، وكانت محاصرته في المقاطعة بعد اجتياح الضفة ورام الله والدبابات تحيط بمقر المقاطعة وتنهشها وتهدمها حائطاً حائطاً دليلاً قاطعاً بأنها تريد التخلص من أبو عمار.
كل الأطراف المعنية بالقضية أو ذات الصلة بها تعرف بأن إسرائيل قتلت ياسر عرفات بالبولونيوم المشع 210 ، أمريكا وفرنسا وروسيا ومصر والأردن وحتى القيادة الفلسطينية برئاسة أبو مازن الذي كاد أن يُعلن قبيل افتتاح المؤتمر السابع لحركة فتح 2016 عن المشاركين في اغتيال أبو عمار إلا أن ضغوطاً بل وتهديدات إسرائيلية وأمريكية وعربية أثنته عن ذلك.
والسؤال الأول : لماذا اغتالت إسرائيل أبو عمار وقد وقَّع مع رئيس وزرائها اسحاق رابين اتفاقية سلام- اتفاقية أوسلو 1993- ؟
إسرائيل أرادت أن تتخلص من أبو عمار وقامت بذلك ليس لأنه (إرهابي) أو يريد العودة للسلاح أو لأنه فاسد، فإسرائيل وبالرغم مما تُلحقه المقاومة المسلحة بها من أضرار إلا أنها تستطيع أن تتعامل مع المقاومين وحَمَلة السلاح بل إن وجودهم في بعض الأحيان قد يخدم مصالحها الاستراتيجية وأهمها التهرب من عملية السلام بالزعم أن الفلسطينيين لا يريدون السلام وعدم وجود شريك فلسطيني للسلام والتهرب من الاعتراف بقرارات الشرعية الدولية حول فلسطين وعدم توقيع اتفاقية سلام مع الفلسطينيين تؤدي لقيام دولة فلسطينية، وأبو عمار كان يريد بل ويصر على السلام وتطبيق كل قرارات الشرعية الدولية وعلى قيام الدولة الفلسطينية. كما أن إسرائيل لم تغتال أبو عمار لأنه فاسد، فإسرائيل وواشنطن هم من أسسوا للفساد ورعوا الفاسدين في السلطة وفي كل المنطقة العربية.
إسرائيل اغتالت أبو عمار لأنه قائد وطني محبوب من شعبه وتحترمه كل شعوب الأرض، واغتالته لأنه قائد قوي والقائد القوي هو الذي يستطيع صناعة السلام، والحركة الصهيونية لا تريد السلام، ومن يغتال الصهيوني اسحاق رابين- تم اغتياله على يد الصهيوني المتطرف يجال عامير يوم 4 نوفمبر 1995- لأنه أراد تسوية سياسية حتى كمناورة سياسية لن يتورع عن قتل الفلسطيني ياسر عرفات، ولأنها باغتياله تعزز الفتنة والفوضى بين الفلسطينيين.
والسؤال الثاني: لماذا لا تُعلن القيادة الفلسطينية رسمياً عن مسؤولية إسرائيل عن قتله؟
القيادة وكل الشعب يعرف أن إسرائيل اغتالت الرئيس ياسر عرفات، ولكنها حسبت حساب ردود الفعل التي ستترتب على اتهامها إسرائيل، وما الذي يمكنها فعله للرد على هذه الجريمة، فرسمياً من المفترض على القيادة اتخاذ إجراءات ضد إسرائيل في مستوى جريمة الاغتيال مثل سحب اعترافها بإسرائيل و وقف التنسيق الأمني أو تعلن عن حل السلطة، والقيادة الفلسطينية المراهِنة كلياً على عملية التسوية السياسية والمفاوضات والتعامل مع خطة خارطة الطريق مع إسرائيل والتي كانت تحاول كسب ثقة أمريكا مجدداً بالسلطة، والمنشغلة بالبحث عن خليفة لأبو عمار وبالانتخابات الرئاسية ثم التشريعية، وبخطة شارون للانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة، والمُنهكة بالحصار المفروض عليها والخلافات الداخلية الخ، هذه السلطة ضمن هذه الأوضاع فضلت السلامة لنفسها ولعملية التسوية السياسية، حتى لا تمنح إسرائيل مبرراً إضافياً لوأد العملية السلمية وخصوصاً أن حركة حماس كانت متهيئة لاستلام زمام الأمور .
وهكذا توزع دم الزعيم ياسر عرفات بين القبائل، وباغتياله يمكن التأريخ لنهاية أو بداية نهاية مسار التسوية السياسية واتفاقية أوسلو، فما بعد أبو عمار تجري عملية تكييف قسري للسلطة لتستمر كسلطة حكم ذاتي محدود بالشروط الإسرائيلية، وبغيابه تم تمرير مخطط الانقسام وسيطرة حركة حماس على قطاع غزة بسهولة ؟.
سنكون مبالغين وشعاراتيين إن قلنا أو طالبنا بالعودة لزمن أبو عمار أو تكرار شخصيته، فالشخصيات التاريخية وليدة زمانها وظروفها وبيئتها المحلية والدولية، والزمن والظروف والمعطيات والمعادلات الإقليمية والدولية تتغير، ولكن الشعب الذي انجب أبو عمار قادر على انجاب قيادات قادرة على التعامل مع معطيات المرحلة وبما لا يخل بالحقوق والثوابت الوطنية، وهناك كثيرون يسيرون على دربه داخل حركة فتح وخارجها لأن (العرفاتية) تحولت لنهج نضالي عام، وإن كانت القضية التي ناضل واستشهد من أجلها أبو عمار ووضعها على سلم الاهتمامات الدولية ما زالت بدون حل إلا أنها ما زالت محل اهتمام دولي وغالبية دول العالم تعترف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على أرضه وبحقه بإقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس. وما زالت كوفية أبو عمار إحدى رموز الوطنية والفدائية والتمسك بالثوابت .