الورقة التي كتبها المفكّر الفلسطيني إبراهيم أبراش تحت عنوان قضاء وقدر أم اخطاء البشر؟ ليست مجرد مقال رأي؛ هي محاولة نقديّة جريئة لكسر واحدة من أكثر “الأدوات الخطابيّة” استخدامًا في الحياة السياسية العربية عمومًا، والفلسطينية خصوصًا: استدعاء القضاء والقدر لتبرير أخطاء البشر، وتحديدًا أخطاء التنظيمات الإسلاموية السياسية.
التحليل التالي يقدّم قراءة معمّقة للنص، ويُظهر رسائله المركزية وطرائق اشتغاله الفكرية والسياسية.
أولًا: جوهر الفكرة – إسقاط مقولة «لن يصيبكم إلا ما كتب الله لكم» على السياسة
أبـراش يبدأ من سؤال لاهوتي قديم: هل مصائر الأمم تُحسَب كـ«قضاء وقدر» مثل مصائر الأفراد؟
هو لا ينكر مفهوم القدر، لكنه يضعه في سياقه الصحيح: الأفعال السياسية – بما فيها انتصارات الأمم وهزائمها – ليست منتجات “غيبية”، بل نتائج مباشرة لقرارات بشرية، تخطيط، سوء تقدير، أو حكمة في الإدارة.
هذه الفكرة تُمهّد لمضمون المقال:
❗ فشل غزة 2023–2025 لم يكن “قدَرًا”، بل نتيجة قرار سياسي خاطئ من قيادة حماس.
ثانيًا: تفكيك «تديين» الهزيمة
أبـراش يضيء على ظاهرة متكرّرة:
عندما تخطئ التنظيمات الإسلاموية، تُسارع إلى رفع شعار:
“هذا قضاء الله… ابتلاء… اختبار… حكمة إلهية”
بينما الحقيقة – وفق رؤية الكاتب – أن القيادات تتحصّن بالدين لتفادي المساءلة، وكأنها فوق المحاسبة.
ولفتته الأبرز هنا:
“حركة حماس الربانية لا تخطئ.”
هذه الجملة تلخّص نقده: التنظيم يصنع حول نفسه هالة «عصمة سياسية» باسم الدين.
ثالثًا: المفارقة بين خطاب غزة وخطاب الضفة
من أذكـى نقاط المقال وأكثرها حِدّة:
في غزة:
حماس تبرّر الكارثة بـ:
- القضاء والقدر
- حكمة ربّانية
- مؤامرة الصهيوني–الأميركي
- تخاذل العرب
في الضفة:
الخطاب ينقلب تمامًا:
- لا قدر ولا ابتلاء
- المسؤول هو “السلطة” و”التنسيق الأمني.
- ولا تُذكر قوة الاحتلال أو جبروته
بل تُصوَّر الأحداث وكأنها عقوبة سماوية على القيادة الشرعية وحدها.
يعبّر الكاتب عن ذلك بسخرية لاذعة:
“كأن الله الموجود في غزة غير الموجود في الضفة!”
وهو يمسّ هنا لبّ المشكلة: ازدواجية الخطاب وضبابية المعيار الأخلاقي لدى حماس في تفسير الأحداث.
رابعًا: إعادة وضع الأحداث في سياقها الواقعي
الكاتب يذكّر بحقيقة تاريخية:
رسول الله ﷺ نفسه خسر معركة أُحد رغم وجوده بين المسلمين، ومشهد بدر وأحد يثبتان أن النصر والهزيمة سنن اجتماعية وتاريخية، لا “هبات غيبية”.
وبالتالي:
- لو كان النصر قدرًا غيبيًا خالصًا، لانتصر المسلمون في كل معركة.
- هذا ينفي منطق: “نحن الربانيون، لا نُهزم إلا امتحانًا”.
خامسًا: الرسالة السياسية المتضمّنة
أبـراش يريد أن يقول – دون مجاملة – إن:
- نتائج 7 أكتوبر لم تكن قدَرًا… بل نتيجة حسابات بشرية كارثية.
- حماس اتخذت قرارًا أحاديًا.
- لم تُجرِ موازنات قوى حقيقية.
- لم تُقدّر حجم رد الفعل الإسرائيلي–الأميركي.
- زجّت 2 مليون فلسطيني في حرب انتحارية.
ثم بعد ذلك، بدل الاعتراف، اختبأت خلف “النص الديني” لتُسكت النقاش والمحاسبة.
سادسًا: نقد التوظيف السياسي للدين
هذه من أقوى فقرات المقال:
- آيات القرآن تُستخدم كـ“خوذة سياسية” لحماية قرارات خاطئة.
- الدين يُصبح وسيلة تبرير، لا وسيلة تهذيب.
- حين تخطئ حماس: ابتلاء.
- حين تخطئ السلطة: خيانة وتنسيق أمني.
هذا – في رأي الكاتب – تحريفٌ لمعنى الدين واستخدامه لأغراض حزبية بحتة.
سابعًا: البعد الفلسفي
على المستوى الفلسفي، يعيد أبـراش طرح سؤال كلاسيكي:
هل الله يتدخّل في السياسة؟
هو يقدّم إجابة واضحة:
“رب العالمين محايد ولا يتدخل في الشؤون السياسية أو الحربية.”
المعنى:
- الدول تنهض بعمل أبنائها.
- والأمم تُهزم بأخطاء قادتها.
- والله يترك سنن التاريخ تعمل وفق قوانينها.
ثامنًا: ماذا يريد الكاتب أن نستنتج؟
١) لا يمكن أن نعتبر دمار غزة “قدَرًا مقدّرًا” لتبرير أخطاء بشرية.
٢) لا يمكن قبول ازدواجية تفسير الأحداث دينيًا في غزة، وسياسيًا في الضفة.
٣) يجب مساءلة القيادات، مهما رفعت من “شعارات دينية”.
٤) الدولة، المشروع الوطني، ووحدة الشعب أعلى من أي خطاب حزبي.
الخلاصة التحليلية
إبراهيم أبراش يقدّم نقدًا فكريًا وسياسيًا شجاعًا:
هو لا يهاجم الدين، بل يهاجم استغلال الدين.
ولا يهاجم المقاومة، بل يهاجم تحويل الشعب إلى وقود مقاومات غير محسوبة.
ولا يبرّئ الاحتلال، بل يحمّل المسؤولية للقيادة التي تُصرّ على اعتبار نفسها “منزّهة” عن الخطأ.
المقال يُذكّر بحقيقة مُرّة:
الكارثة التي حلّت على غزة ليست قدرًا، بل نتيجة قرار سياسي خاطئ… والقدر لا يُستخدم كستار للهروب من المحاسبة.
وهو مقال مهم لأنه يفتح بابًا مُلحًّا:
كيف نُعيد أخلاق السياسة إلى معناها الحقيقي… بعيدًا عن تُجّار الدين… وعن صناعة العصمة فوق دماء الناس؟
شكرا د. ابراهيم ابراش
صادر عن مركز المستشار للرصد والتحليل (MCMA)
البريد الإلكتروني:
mcma.center@gmail.com


















