الغربة لا تعني البعد أو التباعد الجسدي عن الوطن بل البعد النفسي والعقلي والوجداني عنه، فالإنسان قد يتواجد في وطنه الأصلي ومسقط رأسه ولكنه يشعر بالغربة والجفاء بينه وبين كل ما ومن يُحيطون به فيصاب بحالة إحباط والإحساس بألا معنى، حتى الوطن يفقد معناه، مما يُشعر المرء بحالة من العبث وألا جدوى ويقتل عنده روح الإبداع والرغبة في عمل أي شيء ذي قيمة لنفسه وحتى للوطن الذي يفقد الانتماء له. وعلى العكس من ذلك قد يتواجد ويعيش الإنسان في بلاد بعيدة ولكنه لا يشعر بالغربة بل بالطمأنينة على نفسه وعائلته وبالألفة بينه وبين المكان والبشر المحيطين به، هذا الإحساس بالانتماء للموطن الجديد يدفعه للعمل بجد وللإبداع ويكتشف ذاته التي فقدها في بلده.
في الوطن قد يفقد المرء ليس فقط احترامه وتقديره بل حتى الإحساس بالانتماء الوطني، وفي الغربة قد يجد المرء الاحترام والتقدير كما يتعزز الانتماء لوطنه الأم ويكتشف وطنيته مجددا.ً
ما سبق لا ينطبق على الجميع، فهناك صنف من البشر غرباء في الغربة بسبب الحنين الدائم للوطن وغرباء في الوطن بسبب الرغبة في الوصول إلى الكمال، وهؤلاء يعيشون حالة قلق دائم ولا يستقر لهم مقام ونجدهم دائمي التنقل جسدياً وروحياً ما بين وطن مسقط الرأس ووطن الإقامة. وصنف آخر وطنيون في الوطن حتى وإن جار عليهم الوطن وقهرهم الأهل وذو القربى ولا يرتضون عنه بديلا مهما كانت إغراءات الخارج، ووطنيون في الغربة إن أجبرتهم الظروف على مغادرته فيحملون معهم الوطن ويقدمون له في غربتهم أكثر مما كانوا يقدمون له وهم في الوطن.