ليس كل ما يقوله السياسيون للإعلام وفي الجلسات العلنية صحيحا، وليس كل ما لا يصرحون به غير موجود.الخطاب السياسي –مكتوبا كان أم مسموعا – غير النص الأدبي، فقيمة هذا الأخير تكمن في ذاته، في جمالية الكلمة واتساق النص وفي المُتَخيل الذي يولده ، حيث القارئ لا يحتاج لمقارنة النص بالواقع ليحكم على قيمته وصدقيته الأدبية والفنية، أما الخطاب السياسي فقيمته لا تكمن في ذاته، لا في جماليته ولا في اتساق مفرداته (فيما عدا الايدولوجيا والفلسفة السياسية )، بل في الرسالة التي يريد توصيلها والتي كثيرا ما لا تكون ضمن مفردات الخطاب بل بين سطوره أو في تأويله وفي علاقته بالواقع وقدرته على التأثير على مجريات أمور الواقع.وعليه فمن يريد فهم سياسة كيان سياسي ما -خصوصا في بعده الاستراتيجي-، سواء كان نظاما سياسيا أو حزبا أو زعيما، فعليه ألا يُشغل نفسه كثيرا بالخطابات أو التقارير الرسمية ولا حتى بجلسات المؤسسات التشريعية ولجان التحقيق التي تعلن نتائجها للجمهور ولا بالمؤتمرات والمقالات الصحفية، نعم، عليه أن يتابع ويحلل كل ذلك ولكن لا يصدر حكما نهائيا من خلال ذلك فقط، بل يجب البحث عن الأهداف الحقيقية للسياسة والسياسيين في مكان آخر، يبحث عنها في السياسة عندما تتحول إلى ممارسات حقيقية على أرض الواقع، السياسة بما هي تحالفات وصراعات على المصالح، السياسة بما هي توازنات طائفية وطبقية ونخبوية،يبحث عنها ويتعرف عليها من خلال البحث عما إذا كان لكل طفل مقعد دراسي أم أن الأطفال يتسولون في الشوارع ،سيتعرف على السياسة عندما يعرف إذا كان لكل مواطن بيت يؤويه أم أن آلاف الآسر تعيش في الشوارع والمقابر وفي بيوت الصفيح ،سيتعرف على السياسة إذا ما عرف إن كان لكل مريض سرير في المستشفى وقدرة على شراء الدواء أم أن الناس يموتون لعجزهم عن دفع أجرة طبيب وثمن مبيت في مستشفى أو شراء دواء من صيدلية،الخ .الواقع هو المحك العملي للحكم على السياسة والسياسيين.
من جانب آخر يجب التمييز بين النص الفلسفي والأيديولوجي ، والخطاب السياسي، الفلسفة أو الأيديولوجيا حتى وإن كانتا سياسيتين هما مجالات نظرية قائمة بذاتها ومكتفية بذاتها،مجالات لا تبحث عن ممارسة تمنحها المصداقية أو تؤكد مقولاتها، فمصداقيتها مستمدة من اتساقها النظري، مع جانب إيماني، وبالتالي لا تحتاج لدليل من خارج النص، بينما السياسة كعلم- والعلم هو معرفة الشيء بحقيقته وعلم السياسة هو فن إدارة الحكم- شيء مختلف ومقاييس الحكم عليه مختلفة. المشكلة تطرح عندما يحاول البعض إقحام المقولات الفلسفية والأيديولوجية بما فيها الدينية بما هي مجال ملتبس، على ميدان الممارسة السياسية، على مستوى السلطة والدولة.وقد لاحظنا كيف أن نهضة الدول الأوروبية بداية ثم اليابان وعديد من الدول الديمقراطية المستقرة، ما كان لها أن تكون لولا الفصل ما بين الدولة والممارسة السياسية من جانب، ومتاهات التاريخ والفلسفة و اللاهوت من جانب ثان،دون أن يعني ذلك إقصاء هذه المجالات الأخيرة من حياة الشعوب وثقافتها.
إذا ما تحدثنا عن الخطاب السياسي الرسمي العربي سنلاحظ حدوث تحول في هذا الخطاب في العقدين الأخيرين نتيجة هبوب رياح الديمقراطية على المنطقة ونتيجة الثورة المعلوماتية والتقنية التي حطمت جدران العزلة التي كانت تفرضها النظم على شعوبها. الخطاب السياسي الرسمي تغير وأصبح يوظف مفردات ومصطلحات غير معهودة فيه،وأصبح له متعهدون، من المثقفين والإعلاميين ومؤسسات تُصنف نفسها كمؤسسات مجتمع مدني ومراكز أبحاث ،يتفننون في صياغة شعاراته وأشكال التعبير عنه.أحبانا لا نجد اختلافا كبيرا ما بين مفردات الخطاب الرسمي العربي سواء كانت مدونات رسمية مدونة كالدستور والقوانين أو ما تقوله الصحف والفضائيات والنشرات الرسمية من جانب،وما يحتويه الخطاب الرسمي للأنظمة الديمقراطية الحقيقية من جانب آخر، إلا أنه شتان بين الواقع العربي والواقع الذي تعيشه المجتمعات الديمقراطية،حيث الواقع في مجتمعاتنا يسير باتجاه متعارض مع مصالح الأمة وأهدافها الحقيقية بالحرية والاستقلال،أي باتجاه معاكس لمنطوق الخطاب.
في مجتمعاتنا هوة واسعة ما بين الخطاب السياسي وخصوصا الرسمي والواقع الذي يعيشه المواطن ، حيث يتحدث الخطاب عن كل قيم الديمقراطية كالحرية والمساواة والمواطنة وحقوق الإنسان والتعددية السياسية والتداول على السلطة والحق بالتعليم والسكن والعلاج فيما تتَشكل حياة الناس وطبيعة العلاقة بينهم وبين الطبقة الحاكمة في مسارات بعيدة ومتعارضة مع مفردات هذا الخطاب، وكأن الأنظمة السياسية تمارس الخطاب المعلن مع إضافة غير معلنة لأداة النفي (لا)، أو أنها تعتقد أن الجماهير على درجة من الغباء أو السذاجة بحيث تبهرها لغة الخطاب وصاحب الخطاب مما يغنيها عن فهم الواقع وتلمس مصالحها الحقيقية من خلاله.
ملاحظة ثانية، هي أن الأنظمة العربية لم تعد تمارس سياسة المنع والحجر على الأفكار والأيديولوجيات،بل توجد تخمة في هذا المجال، بل لا تتورع الأنظمة عن فتح فضائيات تابعة لها أو تسهل لفضائيات خاصة عملها وتسمح لهذه الفضائيات بالتحدث عن كل شيء وتنتقد كل شيء حتى الأنظمة نفسها.وهذا مختلف كليا مع ما كان يجري في الستينيات والسبعينيات مثلا عندما كانت تُمنع الكتب والمجلات من المرور عبر الحدود أو تخضع لرقابة مشددة،وكان الكتاب والمثقفون يطاردون على كتاب كتبوه أو قصيدة أو حتى أغنية ،وكان يجري التشويش على الإذاعات الخارجية الخ .
نخلص للقول بأن الخطاب السياسي لم يعد معيارا للحكم على شرعية وأهلية أي نظام سياسي ،ويمكن أن نظيف حتى الخطاب السياسي لقوى المعارضة ،لقد حولت الأنظمة والنخب السياسية الخطاب السياسي لأيدولوجيا وخصوصا عندما تضفى على هذا الخطاب مسحة دينية ، أو لمجرد نصوص على ورق لا تثير اهتمام احد، بدلا من أن يكون مرشدا وأداة للتغيير،وعليه فشرعية النظام يجب أن تستمد من شرعية الإنجاز،من القدرة والإرادة في تلبية الاحتياجات الأساسية للجمهور،في توفير حياة كريمة وأمل بالمستقبل .
9-4-2008