عندما صدر قرار التقسيم 181 عام ١٩٤٧ عن الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي ينص على قيام دولة لليهود ودولة عربية كانت المشكلة كيف يمكن تنفيذ القرار فيما يتعلق بدولة اليهود وغالبية سكان فلسطين من الفلسطينيين؟ فكانت المؤامرة والتنسيق بين بريطانيا ودول جامعة الدول العربية آنذاك (المملكة المصرية، المملكة السعودية، مملكة اليمن، مملكة العراق، إمارة شرق الأردن، لبنان، وسوريا) بافتعال حرب تؤدي لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم وتطهير دولة اليهود من غالبية الفلسطينيين، وبالفعل تم تشكيل جيش عربي تحت قيادة جلوب باشا وهو ضابط كبير في الجيش البريطاني، وللتذكير فبريطانيا هي التي أصدرت وعد بلفور وثبتته في صك الانتداب على فلسطين وساعدت اليهود خلال استعمارها لفلسطين على الهجرة والاستيلاء على أراضي الفلسطينيين كما ساعدتهم عسكرياـ ليقود الحرب تحت عنوان رفض قرار التقسيم، وكان عدد الجنود من كل الجيوش العربية حوالي ٢٢ ألف بأسلحة متواضعة وبعضها فاسد كما كان الأمر مع الجيش المصري وهو أكبر الجيوش المشاركة وعدد مقاتليه 10000جندي، أما عدد المقاتلين اليهود من العصابات اليهودية المتواجدة – الهاجاناة واشتيرن وأتسل- يفوق ذلك بأضعاف ووصل في ذروة الحرب إلى مائة ألف مزودين بأسلحة حديثة وما تركه الجيش البريطاني من أسلحة وثكنات عسكرية وطرق إمداد، كما وظف اليهود قضية الهلوكوست والمظلومية اليهودية لتمرير المؤامرة عالميا، ونجح المخطط (النكبة) وتم التطهير العرقي بتهجير حوالي ٨٠% من الفلسطينيين وتدمير حوالي 500 قرية ، وبدلا من أن تقوم دولة اليهود على نصف مساحة فلسطين كما نص قرار التقسيم قامت على مساحة ٧٨% من فلسطين، وكثير من أسرار المؤامرة ذكرها جمال عبد الناصر في مذكراته عن الحرب أيضا القائد الأردني عبدالله التل الذي شارك في الحرب.
في حرب حزيران ٦٧ (النكسة) وهي حرب عربية إسرائيلية لا دور للفلسطينيين فيها استكملت إسرائيل احتلال بقية فلسطين، الضفة بما فيها القدس الشرقية وغزة بالإضافة الى أراضي عربية أخرى.
بالرغم من النكبة والنكسة نهضت الوطنية الفلسطينية مجدداً وانطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة واعترفت غالبية دول العالم بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وحقه في دولة مستقلة وبمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً له مما قطع الطريق على من يريد استكمال مخطط التآمر وتصفية القضية الوطنية، كما فشل العدو في كسر شوكة الشعب الفلسطيني واستمر صموده أرضه واستمرت المقاومة بكل أشكالها في فلسطين وخارجها وكانت الرواية الفلسطينية تكسب مزيداً من الأنصار والفلسطينيون يتزايدون في فلسطين بالإضافة إلى وجود سلطة فلسطينية تشكل نواة دولة يتزايد اعتراف العالم بها كل يوم.
بعد عقود من الاحتلال أصبح عدد الفلسطينيين في فلسطين يوازي أو يزيد عن عدد اليهود مما هدد فكرة و مشروع يهودية الدولة الذي يسعى لأقامه دولة يهودية خالصة، والذي تتبناه الحكومة اليمينية الحالية بزعامة نتنياهو وبنغفير وسموترتش فكان لا بد من عملية تطهير عرقي جديدة، وبالتالي الى حرب، وكانت البداية محاولة افتعال فتنة وحرب داخليةـ فكان الانقسام أو النكبة الفلسطينية الثانية في يونيو 2007 وإضعاف منظمة التحرير واضعاف السلطة الفلسطينية والمساعدة على ظهور سلطة منافسة وموازية في قطاع غزة تقودها حركة حماس.
حرب الإبادة والتطهير العرقي لاستكمال المشروع الصهيوني على كامل فلسطين كان يحتاج لأدوات عربية واقليمية وفلسطينية وبيئة دولية مواتية لتنفيذ هذا المخطط أو السكوت عنه، فكان تعزيز دولة الاحتلال علاقاتها مع واشنطن والغرب، وتوظيف الفضاء السيبراني لنشر الرواية اليهودية عن المظلومية والهلوكوست، كما تمكن العدو بمساعدة واشنطن في التطبيع مع دول عربية وإسلامية لفك الارتباط بين فلسطين ومحيطها العربي والإسلامي.
كانت خطة الحسم التي وضعها الوزير المتطرف سموترتش عام ٢٠١٧ للضفة لتوسيع الاستيطان والتهويد النهائي للقدس والمسجد الأقصى وانهاء وجود سلطة وطنية يمكنها أن تكون قاعدة ومنطلقاً للدولة الفلسطينية وتغيير التركيبة السكانية والعمرانية والثقافية، وفي نفس الوقت التهيئة لافتعال حرب كبيرة في قطاع غزة يؤدي لتهجير أكبر عدد من السكان بالإضافة إلى محاولة تصفية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) كعنوان لقضية للاجئين..
وعندما جاءت لحظة الحسم اليهودية الصهيونية استغلت إسرائيل ما جرى في غلاف غزة وضخمته إعلامياً لتبدو وكان اليهود يتعرضون لخطر وجودي كما جرى في هولوكست الحرب العالمية الثانية وهوَّلت وضخمت من الخطر الايراني والقدرات العسكرية لحماس. قد يقول قائل إن عملية طوفان الأقصى تندرج في سياق مقاومة مشروعة ضد الاحتلال الذي يرفض السلام ويرفض الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وحقه في دولة مستقلة الخ ولكن الأمور فلتت من يد المقاومين الذين اقتحموا غلاف غزة، وهذا ما قاله أكثر من قائد حمساوي، وحتى لو صدق هذا القول كان على حركة حماس سرعة تدارك الأمر وعدم منح العدو فرصة لتنفيذ مخططه إلا أنها استمرت في بإطلاق صواريخ عبثية وعظمت من قدراتها العسكرية ورفعت من سقف مطالبها وتساوقت مع تهريجات قناة الجزيرة وجيش مرتزقتها من المحللين الأمنيين والسياسيين.
نكبة الفلسطينيين الأولى وملامح النكبة الجديدة ليست فقط بسبب اليهود أقذر وأحقر شعوب الأرض والمدعومين من واشنطن الأكثر عدوانية ومعاداة للشعب الفلسطيني، بل أيضا بسبب الجهل والخيانة سواء كانت متخفية تحت عباءة العروبة والبعد القومي أو تحت عباءة الإسلام والبعد الإسلامي لفلسطين والقدس وبسبب انقسام فلسطيني سمح للعدو باختراق الجبهة الداخلية وغيَّب وحدة الشعب والقيادة واستراتيجية مقاومة شاملة.
إن كان مخطط التطهير العرقي نجح بسهولة في النكبة الأولى إلا أن الظروف مختلفة الآن. مواصلة حرب الإبادة والتطهير العرقي وامتداد أمد الحرب لثمانية أشهر وحديث قادة العدو أنها ستستمر لأشهر وربما سنوات قادمة لا يعود لقوة المقاومة وعجز جيش الاحتلال عن تحقيق أهدافه المعلنة غير الحقيقية – تحرير معتقليه والقضاء على حماس- بل لاستكمال مخطط الإبادة وتحويل القطاع لأرض محروقة لتصبح الأوضاع في قطاع غزة أيضا الضفة غير قابلة للحياة حتى بعد وقف الحرب، في مراهنة منه أن الآلاف من الفلسطينيين سيضطرون للهجرة قسراً تحت وقع القصف أو طواعية بعد تدمير كل شيء وانعدام فرص الحياة، هذه المراهنة تواجهها عراقيل قد تنجح في إجبار العدو على التراجع عن تنفيذ أهدافه في هذه الجولة من الحرب، ومن هذه التحديات:
- وعي الفلسطينيين وادراكهم لمخططات العدو واصرارهم على البقاء في أرضهم وبيوتهم حتى وهي مدمرة.
- بالرغم من الانقسام إلا أن هناك رفض من كل الأحزاب لمخطط التهجير.
- الموقف المصري الرافض حتى الآن لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء.
- المظاهرات الطلابية في الغرب وقرارات محكمتي العدل الدولية والجنائية الدولية والتحولات في الرأي العام العالمي المنددة بحرب الإبادة ولمخطط التهجير.
- الخلافات داخل الطبقة السياسية الإسرائيلية وحتى داخل مجلس الحرب حول اليوم الموالي لوقف الحرب ومستقبل غزة.
ومع ذلك فإن تخوفات ما زالت تنتابنا في ظل ما يجري في الأيام الأخيرة في رفح من استمرار المجازر بالإضافة الى التوتر على محور فيلادلفيا واستنفار الجيش المصري والتحذيرات المتكررة للرئيس عبد الفتاح السيسي من خطورة تهجير الفلسطينيين ومصر أدرى من غيرها بما يخطط له العدو، كما أن نتنياهو مصر على مواصلة الحرب مدعوما بتأييد شعبي تزايد في الفترة الأخيرة وبموقف أمريكي مؤيد بالرغم من كل ما يقال عن خلافات بين الطرفين.