القيادة الفلسطينية على حق في موقفها الرافض للسياسة الأمريكية سواء تعلق الأمر باعتراف هذه الأخيرة بالقدس عاصمة لإسرائيل أو أهليتها للعب دور الوسيط في عملية التسوية أو رفض القيادة الفلسطينية لصفقة القرن ، وعلى حق أيضا مواقف الأحزاب الفلسطينية التي تطالب بموقف أكثر حزما في التعامل مع واشنطن وتل أبيب .
ولكن في ظل الحرب المعممة على فلسطين والفلسطينيين وفي ظل استمرار الانقسام فإن سياسة الرفض والتنديد والتنافس بين السلطة ومعارضيها أيهما أكثر شدة وتطرفا في رفضه وتنديده لن تُغير من سياسة واشنطن أو تكبح التغول الإسرائيلي .
علينا التذكير بداية أن مخرجات ربع قرن من المراهنة على تسوية برعاية أمريكية ثم برعاية الرباعية الدولية كانت كارثية على القضية الوطنية ، كما أن التوقف عن المفاوضات والتوجه للأمم المتحدة في الفترة الأخيرة لم تؤثرا أيضا على السياسة الامريكية وتدفعها لإعادة نظر في مواقفها كما لم تؤثرا على السياسة الإسرائيلية وممارساتها ، وفي المقابل فإن أكثر من ربع قرن على سياسة فصائلية موازية تقول بالمقاومة كبديل عن التسوية لم تغير من واقع الأمر شيئا .
اليوم فإن تحديات غير مسبوقة تواجه القضية الوطنية تحديات ترقى لحالة حرب على الشعب والأرض والدولة الفلسطينية الموعودة ،حرب غير تقليدية وغير معلنة تشارك فيها بالإضافة إلى إسرائيل والولايات المتحدة دول عربية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، حرب أكثر خطورة من الحروب الثلاثة على قطاع غزة ومن كل الحروب التي خاضتها الثورة الفلسطينية ، وما يزيد الأمر خطورة تزامن هذه الحرب غير المعلنة مع وضع داخلي مأزوم .
يمكن رصد مؤشرات الحرب المعممة والتحديات غير المسبوقة من خلال ما يلي : –
- حرب عسكرية فعلية يقوم بها جيش الاحتلال والمستوطنون ، وتظهر من خلال عمليات القتل والاعتقالات اليومية في الضفة والقدس وغزة ، كما أن المشاريع الاستيطانية والتهويدية شكل من اشكال الحرب .
- حرب اقتصادية تتبدى من خلال قطع أو تخفيض الأموال التي تقدمها واشنطن للسلطة الفلسطينية وتلاعب إسرائيل بأموال المقاصة ،واستمرار حصار قطاع غزة .
- الحرب على التاريخ والرواية الفلسطينية ،وليس قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل والمزاعم الصهيونية المُشككة بالتاريخ والوجود الفلسطيني وحدهما أطراف هذه الحرب بل تشارك فيها بعض المنابر الإعلامية العربية التي تحرض على الشعب الفلسطيني وتاريخه وتشوه عدالة قضيته .
- حرب على الدولة الفلسطينية المنشودة ، ميدانها هيئة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ، وما يتم اتخاذه من قوانين حكومية إسرائيلية وفي الكنيست .
- الحرب على الأونروا وبالتالي على حق العودة من خلال تخفيض واشنطن لدعمها للأونروا والتحريض الإسرائيلي عليها .
- حرب على وحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني ،حيث تشتغل واشنطن وتل ابيب وأطراف عربية على صناعة قيادة فلسطينية مستعدة للتساوق مع السياسة الأمريكية والتعامل مع صفقة القرن .
- قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ، حيث لا توجد مؤشرات على تراجع ترامب لأن القرار أصبح قرار دولة وخصوصا أنه كان مصادقة على قرار سابق من الكونجرس .
- الوضع الدولي لا يبشر بإمكانية ظهور دولة أو مجموعة دول يمكنها الحلول محل واشنطن في عملية التسوية ، وحتى لو تقدمت دولة أو مجموعة دول بمشروع تسوية فلن يُكتب له النجاح بسبب الرفض الإسرائيلي والأمريكي .
- استمرار الأمور على حالها بانتظار مبادرة دولية للسلام أو تغييرا في موازين القوى الدولية والإقليمية لا يخدم الفلسطينيين ما دامت إسرائيل مستمرة في مشاريعها الاستيطانية وما دامت واشنطن تؤمن لها الحماية والدعم .
- بالرغم من الرفض الدولي للسياسة الأمريكية تجاه الفلسطينيين وتأييد قطاع متزايد من الرأي العام العالمي لعدالة القضية إلا أنه في الحسابات الاستراتيجية يبدو أن الفلسطينيين وحدهم تقريبا في المواجهة الميدانية مع واشنطن وتل أبيب .فالدول الأجنبية تؤيدهم عن بعد وفي حدود لا تصل لدرجة التصادم مع واشنطن وتل ابيب ، والدول العربية إما متساوقة مع السياسة الأمريكية أو عاجزة عن الفعل والتأثير في مجريات الأمور .
- صفقة القرن وزيارة نائب الرئيس الأمريكي للمنطقة واستقباله رسميا من طرف الرئيس المصري والعاهل الأردني تندرج في سياق التهيئة لإطلاق صفقة القرن .
- حتى في حالة عدم طرح تسوية جديدة سواء كانت صفقة القرن أو غيرها فإن استمرار الأمور على حالها يعتبر بحد ذاته تسوية غير مُعلَنة ، إنها تسوية الأمر الواقع ، حيث استمرار الانقسام سيؤدي لكيان في غزة هزيل ومُحاصر يؤمن استمرار استبعاد القطاع من دائرة التأثير والفعل ،واستمرار السلطة في الضفة كشاهد زور على سياسة الاستيطان والتهويد الإسرائيلية ، مع عودة متدرجة لعلاقة ما بين سكان الضفة والأردن .
- إعلان الرئيس المصري السيسي تمسكه بالرعاية الأمريكية للتسوية السياسية والتباس الموقف الأردني حيث الأردن يقف موقفا وسطا ما بين الموقف الفلسطيني والموقف المصري .
- تراجع الحراك الشعبي أو الانتفاضة وعدم وجود مؤشرات حتى الآن على إمكانية التوصل لإستراتيجية وطنية لمواجهة الاحتلال .
- التحول في النخبة السياسية حيث انزياح متدرج للنخبة الوطنية التاريخية لصالح نخبة جديدة مستعدة للتساوق مع أية تسوية أو إدارة حالة ألا تسوية وألا تصعيد .
نحن أمام حرب شاملة لا يلمسها إلا كل جاهل ،أو متجاهل لا يريد أن يعترف بخطورة الحالة ويستمر في الحديث عن الانتصارات والانجازات ، حرب عسكرية واقتصادية ونفسية وثقافية وإعلامية وقانونية . هذه الحرب المُعمَمة تتطلب من القيادة الفلسطينية ومن كل الأحزاب عدم الاكتفاء بسياسة الرفض والتنديد والقول بالتمسك بالثوابت والصمود على الأرض .
حديث التمسك بالثوابت يفقد معناه ما دامت كل الأحزاب المتعارضة مع بعضها البعض تقول به ، وما دامت إسرائيل تحتل كل فلسطين وتخترق هذه الثوابت على سمع وبصر الجميع ، كما يفترض أن مبرر وجود الأحزاب ومصدر شرعيتها ليس لأنها تقول بالتمسك بالثوابت بل لتحرير الوطن واستعادة هذه الثوابت .
أيضا فإن القول بالصمود والثبات على الأرض لا يكفي لأن الشعب الفلسطيني ثابت على أرضه منذ أكثر من أربع آلاف سنة والهجرة التي حدثت عام 1948 لم تكن باختياره بل فرضتها ظروف الحرب والمنطقة العربية برمتها تعيش اليوم في فوضى الربيع العربي حالة حروب مفتوحة وتهجير جماعي .
وفي نفس السياق فإن المراهنة على الأمم المتحدة وتدويل القضية لا يكفي حيث إنه في ظل الواقع الدولي فإن الأمم المتحدة لن تجود علينا إلا بقرارات غير ملزمة والرئيس أبو مازن اعترف في خطابه في المجلس المركزي بأن كل ما صدر عن الأمم المتحدة كانت قرارات غير ملزمة .
إن كان من قيمة لكل ما سبق فإنها تتأتى من تموقعها كجزء من استراتيجية وطنية شمولية عنوانها الصمود والمقاومة واستنهاض قدرات الشعب ، لمواجهة الممارسات الإسرائيلية بما يجعل احتلاله مكلفا وبما يُشعر كل دول العالم بأن الشعب الفلسطيني لم يستسلم للأمر الواقع .
في هذا السياق نستحضر انطلاقة الثورة الفلسطينية عام 1965 حيث لم تقل حركة فتح أنها ستحرر فلسطين بالإمكانيات الذاتية للفلسطينيين بل استنهاض الحالة الوطنية والعربية وإرهاق الاحتلال واستنزاف مقدراته ، والحالة التي تمر بها القضية في السنوات الأخيرة لا تقل خطورة عن حالها عند انطلاقة الثورة الفلسطينية وحركة فتح ، وهو ما يتطلب استراتيجية وطنية تستلهم منطلقات الثورة مع الأخذ بعين الاعتبار ما تم تحقيقه من انجازات وما استجد من تطورات ، وهذه الاستراتيجية لن تكون فاعلة إلا إذا كانت في إطار وحدة وطنية .