من بديهيات علم المفاوضات وعلم السياسة بشكل عام، أن المفاوضات سواء كانت جماعية أو ثنائية ، في حالة الحرب أم حالة السلم ،هي آلية لفض النزاعات المسلحة أو الخلافات السياسية ،ويحكمها نفس المنطق الذي يحكم الحروب وهو أن نتائجها تكون محصلة لموازين القوى،ولكن ما يميز المواجهات العسكرية عن المفاوضات السياسية ،أنه في الأولى يكون مفهوم القوة يعتمد أساسا على القوة العسكرية بمستلزماتها التكنولوجية ،دون تجاهل غوامل لوجستية وسياسية مساعدة،أما في الحالة الثانية فمفهوم موازين القوى اكثر شمولية ،حيث القوة تاخذ معان متشعبة، فبالإضافة للقوة العسكرية – التي قد تكون غير اساسية- هناك القوة الاقتصادية وقوة تماسك الجبهة الداخلية لكل طرف وقوة التحالفات الخارجية وقوة القيادة او الزعامة التي تجلس على طاولة المفاوضات وقوة الحق الذي يدعيه كل طرف، أيضا عامل التوقيت الذي تجري فيه المفاوضات .
هذا المنطف الذي يحكم المفاوضات ولكي يؤدي مفاعيله كآلية حقيقية لفظ النزاعات ،مشروط بعنصر غير مادي ولكنه جوهري ونقصد به توفر النوايا عند طرفي النزاع بحل القضية محل الصراع ،إن لم يكن طرفا النزاع- أو أحدهما وخصوصا الطرف الأقوى – راغبين حقيقة بالسلام فإن المفاوضات ترتد سلبا على منطقها وتصبح ألية للمراوغة وتمديد أمد الصراع ،بل قد تصبح عاملا معيقا لأي سلام حقيقي مستقبلا ،عندما يسعى الطرف القوي لفرض اتفاقات مهينة على الطرف الضعيف مما يولد ردود فعل احتجاجية في ساحة هذا الطرف وتتقوى مواقف الرفض لكل نهج التسوية السلمية.وعليه فليست كل مفاوضات مؤدية بالضرورة للسلام حتى وإن كانت تحت عنوان مفاوضات سلام .
بعد مواجهات عسكرية بين العرب والإسرائيليين صبت نتائجها في المحصلة لصالح إسرائيل ،دون تجاهل تسجيل نقاط ايجابية لمواجهات بطولية متفرقة للعرب والفلسطينيين –تم الانتقال لمواجهة العدو عبر طاولة المفاوضات ،ومع ذلك كانت كل المؤتمرات والمفاوضات التي جمعت الفلسطينيين مع الإسرائيليين منذ مؤتمر مدريد 1991 إلى اليوم مفاوضات سياسية تحت فوهة البنادق أو بشكل آخر كانت القوة العسكرية حاضرة على طاولة المفاوضات وفي ظل موازين قوى تعمل لصالح العدو،كان العمل العسكري مواكبا للمفاوضا ت ويشكل أداة ضغط على المتفاوضين وخصوصا على المفاوض الفلسطيني الذي لا تسندة قوة عسكرية فاعلة، فيما إسرائيل تحتل كل فلسطين وجيشها يصول ويجول في كل المناطق الفلسطينية.معنى هذا أن القوة العسكرية لم تكن أداة قوة بيد المفاوض الفلسطيني ،حتى العمل العسكري للفصائل والذي لم يكن ضمن استراتيجية مقاومة وطنية كان عاملا سلبيا ومعيقا للمفاوض الفلسطيني ،إذن ما هي مصادر القوة التي ستكون بيد المفاوض الفلسطيني الذي يتهيا للمشاركة بمؤتمر الخريف الموعود ؟وهل أن عقد المؤتمر جاء نتيجة توفر شروط موضوعية محلية وإقليمية ودولية تجعل السلام أمرا قابلا للتحقق ؟والسؤال الأهم هل ان إسرائيل راغبة بالسلام أم بتفكيك المشروع الوطني الفلسطيني والتحايل على الشرعية الدولية؟.
لو كان صاحب الحق يملك القوة بمفهومها الحضاري بما فيها القوة العسكرية، الى جانب قوة الحق، لما احتاج للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع العدو ليستجدي حقه المشروع ،ونحن كفلسطينيين أصحاب حق مشروع ولكننا كنا دوما نفتقر للقوة المساندة لحقنا ،نفتقر للقوة الذاتية نتيجة الشتات ولأن القيادة السياسية لا تملك السلطة والسيادة على الأرض والشعب ولغياب استراتيجية عمل وطني متماسكة وواضحة المعالم وخصوصا خلال السنين الاخيرة ،و نفتقر لقوة الحلفاء الاستراتيجيين من عرب ومسلمين وعجم …،لكل ذلك كنا نجد عذرا لتوجه قيادة منظمة التحرير بداية لتسبيق العمل السياسي على العمل العسكري بعد عقود من ممارسة العمل الفدائي ،ثم توجهها للعملية السلمية التفاوضية بعد تأكد إنفضاض من كنا نعتقد أنهم حلفاء استراتيجيون . تأييد النهج التفاوضي لا يعني أن المفاوض السياسي سيحقق بالضرورة على طاولة المفاوضات ما عجز العمل العسكري عن تحقيقه في ساحات الوغى ،بل يعني فتح أفق جديد من العمل لتحقيق نفس الهدف ولكن بإدارة المعركة بوسائل مختلفة وحلفاء جدد ،ذلك أن تغير الظروف وتغير الحلفاء يستوجب تغير وسائل العمل.
إنطلاقا مما سبق فإن التوجه لمؤتمر الخريف القادم – إن عُقد في موعده المفتَرض -أو أي مؤتمر لا يعني بالضرورة الذهاب للمساومة على الاهداف المشروعة أو التنازل عن ما تم التوافق على انها ثوابت المشروع الوطني وهي الدولة المستقلة في حدود 1967 بما فيها القدس الشرف وحق عودة الاجئين الفلسطينيين ،بل التجاوب مع دعوات سواء كانت أمريكية أو دولية لتحريك عملية السلام المتعثرة .لا شك أن في التفكير الاستراتيجي الأمريكي والإسرائيلي تصورات و رغبة بتحقيق هذه التصورات ،وهي تصورات لحل لا يلبي الحقوق المشروعة للفلسطينيين وحتى لا ينسجم مع ما تم الاتفاق عليه مسبقا كأتفاقية أوسلو أو خطة خارطة الطريق هذا ناهيك عن تلبيتها وانسجامها مع المبادرة العربية للسلام ،والطرف الخصم يريد توظيف حالة الانقسام في الساحة الفلسطينية والانقسام في الموقف العربي وعدم تماسك الموقف الأوروبي والدولي ،لتمرير ما عجز عن تمريره عندما كان الوضع أفضل حالا ،وما يؤكد هذه التخوفات الغموض المقصود سواء لجهة تاريخ عقد المؤتمر أو مرجعية المؤتمر أو أطرافه أو موضوعاته.
إذا كانت القوة العسكرية غير داعمة للمفاوض الفلسطيني كما هو الوضع الداخلي بشكل عام ،وإن كانت الظروف العربية والإقليمية بوضعها الراهن لا تشكل أيضا ورقة قوة للمفاوض الفلسطيني ؟ فعلى ما الرهان إذا ؟ وما هي ضمانات ألا يكون هذا المؤتمر محطة لتسجيل تنازل جديد أو عملية لإرباك المفاوض الفلسطيني ولتعميق الخلاف الفلسطينيي الفلسطيني ؟.ضمان قدرة المفاوض على الخروج من المؤتمر بما يحقق الأهداف الفلسطينية أو على الأقل عدم تمكين الخصوم من تحقيق مراميهم ،يتطلب من الطرف الفلسطيني إنجاز مهمتين قبل الجلوس على طاولة المفاوضات وهي :
أولا:ضبط مرجعية التفاوض
أكثر ما يثير القلق هو غياب المرجعيات التي على اساسها ستجري المفاوضات ،فهل ستكون على أساس اتفاق أوسلو الذي ما زال حيا بالرغم من كل الحديث عن وفاته ،فالسلطة الفلسطينية هي من نتاجه وكذا الترتيبات والعلاقات الاقتصادية بين الطرفين ،كما هي بين الفلسطينيين والعالم الخارجي ،ووجود مناطق (أ )و( ب) و (ج) والتنسيق الأمني الخ ؟ أم ستجرى المفاوضات على أساس خطة خارطة الطريق ؟ أم على أساس المبادرة العربية للسلام؟أم على أساس وعد بوش حول الدولة الفلسطينية ؟وقبل كل ذلك واهم من كل ذلك هناك قرارات الشرعية الدولية ، فمنذ عام 1947 وحتى عام 2007 صدر حوالي 265 قراراً، فعن الجمعية العامة صدر حوالي 136قرارا ، و 61 قراراً عن مجلس الأمن الدولي، و 5 قرارات صادرة عن المجلس الاقتصادى والاجتماعي، و7 قرارات صادرة عن لجنة حقوق الإنسان، و10 قرارات صادرة عن مجلس الوصاية، و14 قراراً صادراً عن منظمة اليونسكو العالمية، و29 قراراً صادراً عن منظمة الصحة العالمية، ثم القرار الصادر عن محكمة العدل الدولية بخصوص تفكيك جدار الفصل العنصري. وكلها قرارات مهمة ولكن اهمها قرار التقسيم 181 و قرار عودة الاجئين 194 و قراري مجلس الأمن الدولي 242 و 338 ،وقرار 1515 وقرار مجلس الامن الدولي حول الجدار،وهذه القرارات تعتبر أهم مصادر قوة المفاوض الفلسطيني إن أحسن توظيفها ،فهل ستكون هذه القرارات حاضرة على طاولة المفاوضات ؟.
حديث الإسرائيليين عن بيان مشنرك أو حتى إعلان مبادئ ،معناه عدم الاعتراف بكل المرجعيات السابقة وتمييع وتسطيح لهذه المرجعيات ،وبالتالي حرمان المفاوض الفلسطيني ومن خلفه القضية الوطنية من أهم ورقة قوة داعمة لحقوقه وهي قرارات الشرعية الدولية أو الاتفاقات والخطط التي لها صفة الإلزام ولو أخلاقيا لانها كانت بضمانات دولية اوبضمان الرباعية. أن تجرى المفاوضات إنطلاقا مما يتفاهم عليه الفلسطينيون والإسرائيليون في ظل موازين القوى الراهنة والوضع الفلسطيني الداخلي ،معناه ابتزاز إسرائيلي بلا حدود و معناه غياب الإرادة الحقيقية بالتسوية النهائية لدى الإسرائيليين ،لأنه لن يكون بيد المفاوض الفلسطيني أية ورقة من أوراق القوة ،والأخطر من ذلك أن قبول المفاوض الفلسطيني بالمرجعية التفاوضية أو التفاهمية أو بمرجعية وزيرة الخارجية الأمريكية ،بدلا من الشرعية الدولية سيَّحول بين الفلسطينيين والمطالبة بتطبيق اي قرار من قرارات الشرعية الدولية مستقبلا . كما أن كل قرارات الشرعية الدولية والاتفاق الموقعة تتحدث عن وحدة الشعب والارض في الضفة والقطاع ،والقفز عن المرجعية الدولية يعني الإقرار بمخطط فصل غزة عن الضفة، وقد يكون من أهداف الخصوم من وراء عقد المؤتمر في ظل الوضع القائم بغزة ومع تغييب قرارات الشرعية الدولية ،تاسيس تصورا جديدا لتسوية يُبنى على حالة الفصل بين غزة والضفة. إحلال الشرعية التفاوضية محل الشرعية الدولية ،بعد أن تنازلنا عن الشرعية التاريخية لصالح الشرعية الدولية ،سيكون خطأ كبيرا يقع فيه المفاوض الفلسطيني.
ثانيا :وحدة الموقف الفلسطيني حول ثوابت واضحة
كما سبقت الإشارة فإن قوة المفاوض تستمد من قوة الجبهة الداخلية ،فالمفاوض على طاولة المفاوضات ينظر إلى ما وراء كتفي خصمه أي للجبهة الداخلية لخصمة ،الجبهة الداخلية لكل طرف تكون موجودة على طاولة المفاوضات بطريقة غير مباشرة .أيضا فإن كان المفاوض الفلسطيني يريد توظيف قرارات الشرعية الدولية أو الاتفاقات الموقعة بما يلبي متطلبات المشروع الوطني ،فلا سبيل له لذلك إلا في ظل وجود سلطة فلسطينية واحدة تسيطر أو صاحبة قرار في الضفة الغربية وغزة وفي ظل وجود حكومة وحدة وطنية ببرنامج سياسي ملتزم بوضوح بثوابت المشروع الوطني ،وليس برنامجا شكليا كما كان عليه الحال في حكومة الوحدة الوطنية الفارطة ،إن لم يتم حسم الخلافات الفلسطينية الداخلية وخصوصا إعادة مركزية السلطة والمصالحة الوطنية قبل الذهاب لأي مؤتمر للسلام ،سنكون امام ثلاثة سيناريوهات :
1) تسوية تقتصر على الضفة الغربية وربما دولة مؤقتة على ما تبقى منها مع علاقة ما مع الإردن، وفي هذه الحالة لن تُحل القضية الفلسطينية لاستمرار قطاع غزة خارج التسوية ،محاصرا ومدججا بالسلاح ، هذا ناهيك عن بقاء قضايا القدس والاجئين دون حل .
2) تدخل عسكري إسرائيلي أو دولي ضد حركة حماس في غزة لتعيد القطاع للسلطة المركزية حتى تكون مشمولة بالتسوية ،وفي هذه الحالة ستعتبر إسرائيل أن خروج قواتها للمرة الثانية من القطاع تنازلا لن يمر دون ثمن ،والثمن سيكون على حساب الضفة الغربية والقدس والاجئين،هذا ناهيك عن أن التدخل العسكري لن يكون مقبول شعبيا وسيزيد من توتر الوضع الفلسطيني الداخلي .
3) تشجيع وساطة عربية أو دولية معلنة أو ضمنية تؤدي لتهدئة داخلية بحيث تتوقف كل اشكال التحريض والصدامات المسلحة والملاحقات في الضفة الغربية وقطاع غزة ،وذلك تمهيدا لحوارات جادة تؤدي لمصالحة حقيقية ،وإن كان الوقت المتبقي وعقد المؤتمر لا يسمح بإنجاز المصالحة ،فعلى الأقل يمكن لحركة حماس من خلال هذه المبادرة منح الرئيس أبو مازن الدعم للتفاوض باسم الشعب الفلسطيني على أن تُعرض أية تسوية لا تتعارض مع الثوابت الوطنية على استفتاء شعبي.
لا نقول للمفاوض الفلسطيني لا تذهب للمؤتمر بل نقول له عليك تحديد لماذا تذهب وما هي مرجعية المفاوض؟ وان تذهب ومن خلفك كل الشعب الفلسطيني وموقف عربي داعم لك .
25-9-2007