22-10-2006
بعد ست سنوات من التعثر المتواصل للتسوية في فلسطين، وفي ظل أجواء إقليمية ودولية غير مواتية، وأوضاع داخلية لسلطة حكم ذاتي أقل ما يقال عنها إنه كان بنقصها الشفافية وحسن الإدارة …، اندلعت انتفاضة الأقصى التي مر عليها اليوم ست سنوات .فهل استوعبت القوى السياسية الفلسطينية الأسباب الحقيقية للانتفاضة ؟وهل كانت الانتفاضة فعلا موجها لتحسين شروط المفاوضات وفرض تسوية عادلة ؟أم كانت ردا ورفضا لنهج التسوية والعودة لإستراتيجية الكفاح المسلح ؟ أم كانت فعلا ارتجاليا غير مخطط له وغير موجه ؟ماذا أنجزت الانتفاضة للمشروع الوطني ؟وما هي التجاوزات التي صاحبت مسيرتها؟ هل واقع الشعب الفلسطيني اليوم يدل على انه في حالة انتفاضة شعبية ضد الاحتلال ؟ وسواء كان الرد سلبا أم إيجابا ،أليس من حقنا وبعد ست سنوات حافلة بالأحداث الجسام أن نعمل وقفة تقييم إن لم يكن نقدا ومحاسبة ؟. نقد ومحاسبة انطلاقا من أن لا شيء مطلق و مقدس إلا الوطن بعد الله ،أما الأحزاب والقيادات فهم أدوات بشرية لهم من الاحترام والشرعية بقدر ما يقدمون من انجازات للوطن وليس انطلاقا من مواصفات خاصة يتمتعون بها.
أسئلة كثيرة تتزاحم في الذكرى السادسة للانتفاضة ،وعندما تكثر التساؤلات وتغيب الإجابات أو تكون مبهمة ويتم التهرب منها ،معنا هذا أن خللا ما ينتاب الموضوع محل التساؤل والموضوع هنا هو الانتفاضة . وقبل أن نُقِّيم الانتفاضة استراتيجيا ونعمل جردا لحسابات الربح والخسارة،فإننا نجرؤ ونقول بأننا نشك بأن مناطق السلطة ما زلت تعيش مرحلة الانتفاضة الشعبية! لا شك أن الشعب الفلسطيني ما زل تحت الاحتلال سواء في الضفة أو غزة وما زال يمارس أشكالا متعددة من الصمود و المقاومة ،والصمود أهم من المقاومة في الحالة الفلسطينية الراهنة،ولكن هل توجد انتفاضة شعبية بالشكل الذي كان يُراد لها أن تكون في بداية انطلاقتها وكما وقَر في العقل السياسي من مفهوم للانتفاضة الشعبية؟ هل الثقافة السائدة في الضفة وغزة : أنماط تفكير وسلوك ، النعرات العائلية والعشائرية المقيتة والتفسخ الأسري والانفلات الأمني والصراعات السياسية على السلطة ،غياب القانون والنظام،الفساد المالي والإداري والأخلاقي في كل مؤسسات السلطة، الخ ،هل هذه تتواءم مع ثقافة شعب يعيش انتفاضة شعبية في مواجهة الاحتلال؟.
قبل أن تستكمل الانتفاضة أعوامها الست ،غابت كلمة انتفاضة عن الخطاب السياسي ودخلت مناطق السلطة في حالة سياسية ونضالية غير قابلة للتوصيف ، حالة لها مفرداتها الخطابية وسلوكياتها وأخلاقياتها ،حالة يصعب توصيفها بأنها انتفاضة شعبية .لم يُعلن أحد وقف الانتفاضة ولن يكون،فكما جرى مع الانتفاضة الأولى 1987حيث لم يُعلن رسميا عن وقفها ولكن أُوجدت أوضاع سياسية جديدة شكلت تجاوزا للانتفاضة ،حيث تم الانتقال من انتفاضة مأزومة إلى سلطة سياسية مأزومة وهي سلطة أوسلو، نفس المخطط يتكرر اليوم ،فبدلا من التفكير بكيفية تفعيل الانتفاضة السلمية وترشيدها وتحسين أداء السلطة، تم إقحام مسألة الانتخابات والديمقراطية ،مما أدى للانتقال من انتفاضة مأزومة إلى ديمقراطية مأزومة ونظام سياسي مأزوم .
إن كان من المعروف بداية الانتفاضة ،فيصعب الحسم بأن الانتفاضة ما زالت متواصلة أو تحديد تاريخ محدد لنهايتها ،نظرا لغموض أهداف واستراتجيات عمل الانتفاضة وتوظيفها من طرف الأحزاب السياسية كل حسب ما يريد.
لقد كتبنا وقلنا في أكثر من مناسبة بأن الوضع الفلسطيني في ظل الانتفاضة يفرز أنماط تفكير وسلوكيات تتناقض مع فلسفة ومبدأ الانتفاضة الشعبية ،أشرنا إلى ذلك في الذكرى الثانية للانتفاضة عندما كتبنا مقالا بعنوان (بعد عامين :الانتفاضة إلى أين؟) وكررنا ذلك قبل عام ونصف تقريبا في مقالنا المعنون (مفاوضات عبثية وعمليات استشهادية أكثر عبثية ) ونوهنا إلى أن الانتفاضة بلَّغت الرسالة في شهورها الثلاثة الأولى وكان يجب أن تستمر سلمية أو تتوقف عندما أصبحت مسلحة ،وحذرنا من مغبة تجييش الشعب واللجوء للعمل العسكري بالشكل الارتجالي السائد وهو ما كانت تريده إسرائيل .ولكن وللأسف أستسهل البعض العمل العسكري وفضله على وسائل النضال الأخرى الأكثر جدوى ضمن معطيات الحالة الفلسطينية الراهنة.فضل البعض العمل المسلح كطريق وحيد للنضال لأنه مُدر للمال من الخارج ومُثير للعواطف ومستقطب لجموع شعبية مقهورة من الاحتلال ويبهرها كل ما هو عنيف ومسلح ، ويمنح حاملي السلاح مكانة اجتماعية يفتقدونها اعتمادا على مؤهلاتهم الشخصية أو أصولهم الاجتماعية.
اعتقد البعض بأن مجرد حمل السلاح يمنحه صفة مناضل وبمجرد أن يتحدث عن الثورة والمقاومة يصبح ثوريا ومقاوما ،وتجاهل هؤلاء بأن الثورة والمقاومة ليسا مجرد سلاح وشعارات ،ولكنهم ثقافة واستراتيجيات شمولية وحسابات عقلانية.كثير من الثورات والانتفاضات الشعبية في العالم أُجهضت من الداخل وليس لقوة العدو أو لخطا في مبدأ الثورة والانتفاضة ،أجهضها أشباه ثوار وأشباه مناضلين من ديماغوجيين وتجار كلام وشعارات،بعض الثورات والانتفاضات كانت وبالا على شعوبها ،حيث حل دكتاتوريون جدد بزي ثوري محل الدكتاتوريين القدامى،وكان فساد أنظمة ثورية أكثر تدميرا من فساد أنظمة رجعية ويمينية،وكثير من الثورات والانتفاضات الصغيرة عددا وإمكانيات حققت لشعوبها الشيء الكثير،لأن قادتها كانوا رجالا ملمين بمحدودية إمكانياتهم ومدركين للظروف الإقليمية والدولية المحيطة بهم ،وكانوا على درجة عالية من المصداقية والإخلاص مكنتهم من كسب ثقة واحترام العدو قبل الصديق .
انتفاضة دون هدف واضح ودون إستراتيجية واضحة وفي ظل تعدد المرجعيات ومصادر القرار لا يمكن أن تكون انتفاضة شعبية ولا يمكن أن تخدم مصلحة وطنية .بشكل مبتذل تم توظيف الشعب ومفهوم الانتفاضة الشعبية ، الشعب ليس جموعا تتجمهر أمام كاميرات الفضائيات وهم يحملون الحجارة أو يرفعون شارات النصر أو ملثمين يحملون الأسلحة..وللأسف انساق سياسيو الشعارات والفشخرة العسكرية وراء إغراء الفضائيات وانبهروا بالكاميرا والمقابلات المصورة والمسموعة ،هذه الفضائيات التي كانت تضخم العمليات العسكرية الفلسطينية لأغراض تخدم دولها بالزعم بأن الشعب الفلسطيني قادر على مقارعة الاحتلال وإنه يحقق الانتصارات على العدو وبالتالي لا يحتاج لمساندة الأنظمة العربية ،وكانت بعض الفضائيات تكثف اللقاءات مع كل من يقول بأنه مسئول عسكري ومع أي ملثم تصادفه في الشارع،ليس حبا وانبهارا بالبطولات الفلسطينية بل خدمة لسياساتها حيث كانت كل مقابلة مع ملثم أو مسئول عسكري فلسطيني أو حديث عن الانتفاضة يقابلها مقابلة مع قائد عسكري أو مسئول إسرائيلي من مستويات رفيعة.
كان كل من يستقطب من حوله بعض المقاتلين وبعض الأسلحة وقذائف يسمونها صواريخ ويطلقون عليها مسميات قادة تاريخيين أو أسماء قدسية ،كانوا يعتقدون أنهم يملكون الحق و الشرعية ليتحدثوا باسم الشعب، وأنهم ملكوا الدنيا وما فيها وأصبح كل شيء تحت سيطرتهم وما على الإسرائيليين إلا أن يجمعوا حقائبهم استعدادا للرحيل… فيما غالبيتهم لم يطلع على إستراتيجية حرب العصابات أو تجارب الثورات أو التحولات في النظام الدولي أو القانون الدولي والشرعية الدولية كما لم يفهموا أبسط مبدأ سياسي وعسكري وهو (أعرف عدوك)،!بل وصل الأمر بالبعض للحديث عن توازن استراتيجي وتوازن رعب مع إسرائيل ،بل وذهب بعضهم للقول بأنهم اخترعوا وسيلة لإبطال مفعول الطائرات الحربية واختراعهم المذهل هو دعوة المقاتلين لإحراق إطارات السيارات لأن الدخان يبطل الرؤية عن الطائرات أو دعوتهم لاستعمال البطاطين لأنها تبطل أيضا الرؤية! وكأن هذه الطائرات صُنعت لتعمل داخل غرف النوم وليس في ساحات المعارك المليئة بالدخان والمواقع المموهة،وكانت نتيجة عقليتهم الفذة أن أستشهد أكثر من 150 مقاتلا أثناء اجتياح شمال القطاع قبل عامين وأكثر من هذا العدد في الاجتياحات اللاحقة.
تواطأ سياسيون ومثقفون والتزموا الصمت على ما يجرى أو تحدثوا بتردد وخجل ،بعضهم صمت لأنه يستفيد من هذا الوضع وخصوصا بعض قادة التنظيمات الذين يعتاشون من وراء تاريخ نضالي ،أولئك الذين من خلال دفعهم بعض الشباب لإطلاق بعض ما يسمونها بالصواريخ أو دفعهم للقيام بعمليات على الحدود معروف مسبقا نتيجتها المؤسفة ،إنما يسجلون على تنظيمهم انه ما زال ينتمي للمقاومة وبالتالي يحتاج للدعم المالي ويبرر بقائه في المشهد السياسي وتحت الأضواء ، والبعض صمت لأنه لا يملك البديل السياسي ولا النضالي وأنشغل بحياته الخاصة وأعماله الخاصة ونسى أو تناسى كل ما له صلة بالقضية الوطنية، هؤلاء تعوزهم العقلية الخلاقة لإبداع وسائل مقاومة وصمود وبناء0وبعضهم صمت لأن ذمتهم المالية والأخلاقية مجروحة ومشكوك بها،وهؤلاء كانوا وما زالوا يتمنون مزيدا من أخطاء الانتفاضة وأخطاء المقاومة ،حتى يبرروا أخطاءهم بالزعم بأنهم ليسوا الوحيدين الذين أخطئوا .
جهل أم تواطؤ ،صمت الجميع ،فعمت الفوضى وانتشرت ظاهرة الارتزاق الثوري وتزايد عدد المنافقين والمتسلقين ومافيا السياسة والسلاح ،وانتشرت الدكاكين التي يسمونها مؤسسات أهلية ومجتمع مدني ومراكز البحوث والدراسات،فالمال يتدفق بلا حسيب أو رقيب،وعندما يفسد الرأس يفسد الجسد والأطراف .
وهكذا بفعل مساع إسرائيلية خبيثة لتدمير المجتمع الفلسطيني من داخله وحرف الانتفاضة عن مسارها الصحيح ،وبتواطؤ مع أطراف داخلية وبجهل ممن نصبوا أنفسهم قادة انتفاضة ونخبة المجتمع، أصبحت مناطق السلطة بلا سلطة والمجتمع بلا ضوابط وتباعدت الهوة ما بين الجماهير والنخبة الحزبية ،وما بين الواقع والطموح ،وتحول شعب الجبارين إلى جموع جائعة تنتظر المساعدات والصدقات من الخارج وليس مهما أن يكون (المحسن) أمريكيا أو إيرانيا أو عربيا.
إلا أن أخطر ما نتج عن الانتفاضة المتسيبة هو التنافس بين الفصائل والجماعات على تجنيد الشباب في إطار المؤسسات الأمنية الرسمية وخارجها مما أدى لتزايد عدد الجماعات المسلحة والحالات العسكرية وعدد قطع السلاح كما ونوعا وخصوصا بعد خروج الجيش الإسرائيلي من القطاع، فلا بيت يخلو من السلاح،وأصبح عدد المسلحين الذين يتقاضون رواتب رسمية(الأجهزة الأمنية –حوالي سبعين ألف – ) أو غير رسمية (الحالات العسكرية والميليشيات التابعة للتنظيمات –أكثر من السبعين ألفا- )أكبر من عدد الموظفين المدنيين في السلطة ،وميزانية هؤلاء المسلحين أكبر من ميزانية الموظفين المدنيين ،والسؤال الذي يفرض نفسه لماذا هذا السلاح وهؤلاء المسلحون ؟.
قد يقول قائل إننا ما زلنا تحت الاحتلال ،وتجنيد الشباب بل وتجييش الشعب ضرورة وطنية ،وهذا كلام يصح إن كانت عملية التجنيد والتجييش تتم في إطار إستراتيجية مقاومة موحدة ومن اجل مقاومة العدو ،ولكن للأسف فان عملية التجييش تأخذ طابعا استقطابيا وتنافسيا بين الفصائل لمواجهة بعضها البعض في إطار الصراع على السلطة ،بل يمكن القول بأن هذه العملية مضرة أكثر مما هي نافعة لانها تقتل العمل الحزبي المنظم وتكون على حساب العمل السياسي المنظم والواعي،وخصوصا عندما تصاحب بعملية تعبئة وتحريض ليس ضد العدو بل ضد الأحزاب وبعضها البعض.
لقد شاهدنا محدودية قدرة هؤلاء المسلحين على مواجهة الاجتياحات الإسرائيلية، فخلال شهرين من العدوان على قطاع غزة واجتياح متواصل لم يُقتل أكثر من جندي أو اثنين فيما استشهد أكثر من مائتين وخمسين فلسطيني ،ولم يكن الأمر في الضفة أفضل حالا حيث تصول وتجول وحدات جيش الاحتلال ولا نشاهد إلا مواجهات محدودة ،لا يعني هذا نقص في شجاعة المقاومين أو ضعف في إيمانهم ولكن السبب هو أن هؤلاء لا يعرفون بالضبط لماذا يحملون السلاح وماذا يريد ممولوهم ،أيضا غياب لإستراتيجية المقاومة وللرؤية الموحدة والقيادة الموحدة للمقاومة، ولان الجغرافيا والتضاريس وتطور وسائل القتال عند العدو يجعل قدرة فلسطينيي الداخل على خوض حرب مفتوحة مع العدو مغامرة غير مضمونة النتائج .
مقاومة جيش الاحتلال ،سواء سميناه جهادا أم مقاومة مسلحة فهو شكل من أشكال الحرب ،ومن المعروف أن الحرب ليست فعلا ارتجاليا أو عمليات ثأرية أو استعراض للقدرات الذاتية أو توظيف ويلات الحرب لمصالح حزبية، بل للحرب قوانين واستراتيجيات ،وعندما تكون حربا وصراعا على شاكلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي فيفترض أن تخضع هذه الحرب لقوانين الحرب ولآليات لإدارة الصراع ولسياسات عامة ولاعتبارات دولية وإقليمية ، العمليات الفدائية ليست مجرد عمليات عسكرية نظرا لتداعياتها السياسية الكبيرة على الشعب الفلسطيني داخليا وعلى علاقاته بالعالم الخارجي ،وللأسف فإن غالبية من كانوا يقومون بهذه العمليات لم يكونوا مدركين الأبعاد السياسية الخطيرة لهذه العمليات محليا ودوليا .
ومن الغريب أنه عندما تقوم إحدى التنظيمات الجهادية بعملية فدائية في غير وقتها يرد سياسيو هذا التنظيم بالقول إن هذه العمليات من تخطيط وتنفيذ الأجنحة العسكرية ولسنا مسئولين عنها!،ولو كانوا يمتلكون مواصفات قيادية إستراتيجية لاستحضروا المقولة ( الحرب اخطر من أن تترك للعسكريين)هذا إن كان من يمارسها يفهم بالعسكرية ، و يصبح الأمر أكثر خطورة عندما تُنفذ بعض العمليات العسكرية بتوجيهات من جناح الخارج للتنظيم أو من جهة غير فلسطينية مما يسبب إرباكا ومعاناة ليس فقط للتنظيم المعني بالأمر بل لكل الوضع الفلسطيني .
إن لم يكن هؤلاء المسلحون مهيئين لخوض حرب مكشوفة مع العدو ،فأي وظيفة رُسمت لهؤلاء من طرف مَن يمولهم ويسلحهم ؟أليس من حق كل منا أن يتخوف من أن هذه التجييش من طرف الفصائل إنما هو لمواجهة بعضهم البعض في إطار الصراع على السلطة ولتصفية حسابات سياسية داخلية وهو ما يحدث هذه الأيام ؟ أليس من حقنا أن نتخوف من انزلاق بعض الجماعات المسلحة لخدمة محاور وسياسات خارجية لا تخدم المصلحة الوطنية ؟.
نفهم جيدا أن نسبة كبيرة من الشباب المنتمين لهذه الجماعات إنما ينخرطون بهذه الجماعات والتنظيمات لأنهم يعتقدون بأنهم يقومون بواجب وطني، واجب بناء الوطن وحمايته وهؤلاء يستحضرون الصورة المشرقة للفدائي التي عشقوها وهم صغار،هؤلاء يعتبرون حمل البندقية شرف والنضال ضد العدو والشهادة في سبيل الوطن واجب ديني ووطني،وكم من هؤلاء الشباب يعتصرهم الألم ويجتاحهم الغضب وهم يرون كم أبتذل السلاح وشوهت صورة المقاوم ومعنى الانتماء ،ومئات من الشباب الشهداء ضربوا مثلا في البطولة ،فأن يذهب الفدائي وهو يحيط جسده بالمتفجرات ليخترق صفوف العدو ويصل لهدفه ثم يفجر نفسه ،فهذه قمة التضحية ولا يمكن لمن يقوم بهذا العمل ان يكون راغبا بالدنيا وملذاتها،ولكن من أرسله قد يكون راغبا بها، و بعض الشباب المنتمين للجماعات المساحة قد لا يكون مدفوعا برؤية واضحة ولكنه ينتمي لجماعة مسلحة لأنه يريد راتب في ظل البطالة المتفشية ،حيث جهة التوظيف الرئيسية اليوم هي الأجهزة الأمنية والتنظيمات والحالات العسكرية ، وآخرون يريدون حمل السلاح وامتلاكه حتى يكون سندا وعونا لهم في مجتمع يعرف انفلاتا امنيا وتفشي العائلية والسلاح مصدر قوة داخل العائلة وفي مواجهة الجيران.
لا شك بأننا نعيش تحت الاحتلال وبان إسرائيل لا تتعامل بجدية مع التسوية ،وحيث يكون الاحتلال يكون الحق بالمقاومة ،ولكن في نفس الوقت يجب استحضار أن العالم يتغير ومفهوم القوة يتغير وان القضية الفلسطينية من أكثر القضايا تعقيدا وان منطق التعامل الدولي، سلما أم حربا ،لا يُعير وزنا للكيانات الصغيرة ولا للحالات العسكرية الصغيرة والمنعزلة ،وتجربة حزب الله الأخيرة خير شاهد فبالرغم من البطولات التي أبداها رجال حزب الله فالنتيجة كانت الخضوع لمنطق الدولة وسلطتها و الخضوع للشرعية الدولية وللقرار 1701.
ويجب استحضار أن هناك عنوانا للشعب الفلسطيني يخاطب العالم ويخاطبه العالم ، منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد ورئيس منتخب وسلطة أفرزتها تسوية سياسية ما زالت قائمة بالرغم من تعثرها وحكومة أنتخبها الشعب لتقوم بمهام مسطرة في القانون الأساسي ،ويجب استحضار أننا بالعمل العسكري وحده لا نستطيع أن نهزم إسرائيل ،ولكن أيضا إسرائيل تدرك أنها لا تستطيع أن تنتصر عسكريا بالضربة القاضية على الشعب الفلسطيني ولكنها تستطيع أن تجره لمربع العمل العسكري لتستنزف قواه وتلهية بمعارك وهمية وبطولات وهمية قد تقلق إسرائيل ولكنها-إسرائيل- في المقابل تنتزع الأرض شبرا شبرا ،وتدمر البنية التحتية التي هي ضمان صمود الشعب لمعركة قادمة أو جولة قادمة من المفاوضات .
ولنتصارح بمحبة وبوضوح ماذا أنجزت الانتفاضة المسلحة ؟وهل من المنطقي عندما تتحدث التنظيمات والجماعات المسلحة عن الانجازات لا تجد لديها من منجزات إلا الحديث عدد الشهداء والأسرى والجرحى واستعراض أشلاء الجثث المتناثرة ومواكب تشييع الشهداء؟أليس غريبا أن تتنافس هذه الجماعات والفصائل في إثبات كثرة عدد شهدائها ومعتقليها ومعطوبيها ،معتبرة أن كثرة عدد الضحايا مقياسا للإنجاز بل للزعم بتحقيق النصر على العدو ؟ بينما كثرة الضحايا دون إنجاز سياسي يعني وجود خطا كبير في الإستراتيجية المتبعة،ولا مبرر للقول بجبروت وإرهاب العدو أو بتقصير الجيران والأصدقاء أو بخلل في نهج التسوية ،لأن هذه الأمور معروفة. أية بطولات وانتصارات هذه والأرض تضيع والقدس تُهود والمجتمع ينهار ومعسكر الحلفاء والأصدقاء ينفض من حولنا ؟ألا يدرك السياسيون أن الاستيطان الإسرائيلي قد تزايد خلال سني الانتفاضة وان القدس تُهود بوتيرة أسرع وان وتيرة بناء الجدار تتسارع دون أية احتجاجات دولية أو حتى محلية وأن قرار محكمة العدل الدولية حول الجدار قد طواه النسيان وأن الوعد بالدولة يتحول لسراب لأنه لم تعد هناك أرض تصلح لأن تكون دولة ؟ ألا يدرك السياسيون أن الشعب لم يعد يميز بين بندقية المناضل وبندقية قاطع الطريق ،وأنه أصبح ينظر بازدراء للبندقية وحاملها فيما كان قبل ذلك يقدس البندقية وحاملها ؟ ألا يدرك السياسيون أننا بعد أن كنا نختلف حول كيفية تحرير الوطن أصبحنا نختلف حول مفهوم الوطن والهوية والدولة؟.
كم يحز بالنفس أن نمارس النقد تجاه المقاومة المسلحة بصيغتها التي سادت خلال سنوات الانتفاضة حيث كانت النتيجة مزيدا من المعاناة للشعب ومزيدا من التفسخ في ساحة العمل الوطني.ويحز بالنفس أن عظمة كلمات المقاومة والجهاد والاستشهاد وشرعية المقاومة والجهاد ، يقابلهما على ارض الواقع تشويه لهذه المعاني السامية وانزلاق في الممارسات عن النهج القويم للمقاومة المسلحة 0
ندرك تماما أن البعض قد يحرف الكلم عن مواضعها ،ويوظف نقدنا السابق ليشكك بمبدأ المقاومة خدمة لنهج يستشري في وطننا وفي الوطن العربي ككل وهو نهج يريد أن يجرد الأمة من كل سلاح للمقاومة أو المعارضة أو حتى الاحتجاج ،إلا أننا نروم من نقدنا تقويم نهج المقاومة السائد و إنقاذها من مأزقها لتنفتح على آفاق جديدة من المقاومة السياسية والثقافية والمجتمعية ،مقاومة تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الحالة الفلسطينية الراهنة ،وهذا الشكل من المقاومة يحرج الأعداء ويحاصرهم في نفس الوقت الذي يحافظ فيه على قدرات وإمكانيات الأمة البشرية والمادية،فهذه الإمكانيات والقدرات هي ضمان بقاء وتمسك المواطنين بأرضهم ووطنهم ،وضمان التفرغ لبناء ما هو متاح من وطن.في الوطن أكثر من أربعة مليون من الفلسطينيين،وصمود هؤلاء وتحويلهم لقوة منتجة وبناءة هو مقاومة بل أهم أشكال المقاومة في ظل اختلال التوازن العسكري مع العدو وفي ظل الظروف الإقليمية والدولية غير المواتية للمقاومة المسلحة.
بعد ست سنوات من انطلاق الانتفاضة ،ست سنوات من المعاناة والتضحيات، نأمل أن يمتلك المسئولون الشجاعة ليمارسوا نقدا ذاتيا لكل ما رفعوا من شعارات وما مارسوا من أفعال.لا يلام الشعب على الحالة التي نحن عليها لان الشعب ينساق وراء خيارات القادة ووعودهم ،ولا يصح تعليق الأخطاء على مشجب الاحتلال لان مبرر وجود المقاومة هو وجود الاحتلال ،وما وجّد القادة ووجدت الفصائل إلا لمواجهة واقع الاحتلال .
في الوقت الذي كانت فيه قوى وطنية وعاقلة تتساءل عن مصير الانتفاضة وكيفية تقويم مسارها ،أقحمت الانتخابات على الحياة السياسية، فابتعدت الأنظار عن الانتفاضة وانشغل الجميع بالاستحقاقات الانتخابية . كان من المتوقع أن تكون الانتخابات بمثابة انتفاضة داخلية تنقذ النظام السياسي الفلسطيني من عيوبه ومأزقه، وانتفاضة على السلوكيات الخاطئة للانتفاضة إن لم يكن انتفاضة على الانتفاضة،إلا أن الانتخابات التي وضعت حدا للانتفاضة دون قرار رسمي ،أسست لحالة سياسية أكثر خطورة وسوء من سنوات الانتفاضة وما قبلها ،حالة انتفاضات داخلية ولكن ما بين وعلى مكونات النظام السياسي وليس في مواجهة الاحتلال 0
لم يكن قبول حركة حماس للتحدي الديمقراطي والمشاركة بالانتخابات منفصلا عن مأزق نهجها المقاوم ،فقد شعرت حركة حماس باكرا بأن نهج المقاومة المسلحة وخصوصا العمليات الاستشهادية الذي رسمته لنفسها، والذي سبقها إليه آخرون منذ عقود، قد وصل لطريق مسدود، حيث وظفت إسرائيل هذه العمليات وما واكبها من تهييج جماهيري ،لتقول للعالم بان الفلسطينيين لا يريدون السلام ويرفضون الشرعية الدولية وإنهم إرهابيون لا يميزون بين المدنين والعسكريين،كما وظفت هذه العمليات داخليا لتبني الجدار وتستولي على مزيد من الأرض وما لم تستولي عليه قامت بتجريفه وتدميره ،وقطعت أوصال الوطن الخ،هذا الإدراك المبكر لحركة حماس بمأزق العمل العسكري بدلا من أن يدفعها لمصارحة الجماهير بالحقيقة_نفس الأمر بالنسبة للتنظيمات الأخرى_ فقد استمرت برفع شعارات المقاومة وتجييش الشعب ،فيما كانت تعمل سرا من أجل التهدئة وتنسج علاقات مع الغرب وأمريكا وتبدي استعدادها لتكون جزءا من النظام السياسي الفلسطيني وهي مساع توجت أخيرا بمشاركتها بالانتخابات ثم تشكيلها للحكومة.
بوصول حركة حماس للتشريعي و للحكومة تفاقمت أزمتها السياسية ،وإن كانت قبل الانتخابات أزمة حزب أو حركة سياسية فقد أصبحت بعد الانتخابات أزمة النظام السياسي وأزمة القضية برمتها،بمعنى أن القضية الوطنية أصبحت تدفع ثمن مأزق أيدلوجية حزب سياسي لم يعد قادرا على التوفيق والمواءمة ما بين منطلقاته الحزبية والعقائدية وعلاقاته الخارجية من جانب وبين قيادة نظام سياسي يلتزم بمشروع وطني توافقت عليه فصائل منظمة التحرير واكتسب موافقة عربية ودولية وكان حصيلة عقود من النضالات العسكرية والسياسية.
حاولت حماس :حكومة وحزبا ،أن تجمع بسلة واحدة بين الحكومة وما تعنيه من وزارات ومؤسسات ومسؤولية عن أكثر من أربعة ملايين فلسطيني يعتمدون اعتمادا شبه كلي على الدعم الخارجي ،تجمع ذلك مع استمرارها كحركة جهادية ترفع شعارات المقاومة والجهاد وعدم الاعتراف بإسرائيل والشرعية الدولية والشرعية العربية والاتفاقات الموقعة الخ ! ولا ندري مثلا كيف يمكن لوزير خارجية في هذه الحكومة أن يتعامل مع القضية إقليميا ودوليا ،ونفس الأمر بالنسبة للوزراء الآخرين في ظل الواقع العربي والدولي الراهن؟ .
بمشاركة حماس بالانتخابات ثم صيرورتها حكومة وما تلا ذلك من صراعات حزبية وحصار خارجي لم يعد هناك مجال للحديث عن شعب في حالة انتفاضة ضد العدو ،بل أصبحت مناطق السلطة بلا سلطة ، حالة سياسية مأزومة و قوى سياسية تتصارع على بقايا سلطة ،مع بعض العمليات العسكرية كإطلاق صواريخ وغيرها لرفع العتب ولإيهام الناس بان هذه الأحزاب المتصارعة على السلطة ما زالت تنتمي للمقاومة ،ولا بأس بان يُقتل بعض الشباب هنا أو هناك أو يُعتقل عشرة هنا أو هناك !.
المنطقة مقبلة على أحداث جسام، وسواء كانت مؤتمرا دوليا أو حربا إقليمية فعلى القيادة الفلسطينية الاستعداد وذلك بتشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة طوارئ وطنية ووضع حد لارتهان الوطن والمصلحة الوطنية والقرار الوطني المستقل بيد هذا الفصيل أو تلك الجماعة المسلحة فالوطن أكبر من الجميع والمعركة طويلة وما هو آت قد يكون أخطر وأصعب من كل ما عاناه الشعب خلال العقود السابقة.