المشاركة السياسية على قاعدة الالتزام بالوطنية الفلسطينية

6 فبراير 2017آخر تحديث :
إشكالية العلاقة بين الانتخابات والمصالحة الوطنية والتسوية السياسية
إشكالية العلاقة بين الانتخابات والمصالحة الوطنية والتسوية السياسية

دراسة منشورة في شؤون فلسطينية 253-254

المشاركة السياسية على قاعدة الالتزام بالوطنية الفلسطينية

 (استلهام تجربة الولادة الثانية للمنظمة 1968)

أ-د/ إبراهيم أبراش

مقدمة

بعد سنوات من تهميش وتغييب منظمة التحرير الفلسطينية اتفقت الفصائل والأحزاب على فتح ملف منظمة التحرير والعمل على إعادة بنائها وتفعيلها، وهذا ما أكدت عليه كل التفاهمات وأوراق المصالحة الفلسطينية –إعلان القاهرة كانون الثاني (يناير) 2005، وثيقة الوفاق الوطني آذار (مارس) 2006، الورقة المصرية للمصالحة كانون الأول (ديسمبر) 2011 وأخيرا اتفاق الدوحة 2012-. لكن التحولات الداخلية والعربية والدولية، والاتفاقات السياسية التي وقعتها منظمة التحرير مع إسرائيل والتحولات الكبيرة التي جرت على نخبة منظمة التحرير والقيادة السياسية، وصدور قرار بدولة فلسطينية بصفة مراقب، الخ، كل ذلك يضع تحديا كبيرا أمام استنهاض المنظمة سواء من حيث بنيتها وتشكيلاتها أو من حيث أهدافها ووظيفتها.

الاستنجاد بمنظمة التحرير اليوم مرجعه أنها إطار استطاع توحيد الشعب الفلسطيني في فترة سابقة ولأنها تحظى بصفة تمثيلية عربية ودولية، ولكن التغيرات في الجغرافيا والأيديولوجيا والسياسة يجعل منظمة التحرير الأولى بمفرداتها الثلاث: منظمة، وتحرير، وفلسطين، لا تنطبق على واقع حال المنظمة الراهن أو منظمة التحرير المأمولة، حيث لم تعد المنظمة تمارس أو قادرة على ممارسة دورها بتنظيم كل الشعب وتعبئته لا داخل فلسطين ولا خارجها، ولم تعد المنظمة تمارس أو قادرة على ممارسة دورها كحركة تحرر وطني تمارس الكفاح المسلح لتحرير فلسطين، كما أن فلسطين التي تم التوافق حولها بين الفصائل ليست فلسطين التي يتحدث عنها الميثاق –من البحر إلى النهر– بل فلسطين حسب قرارات الشرعية الدولية وربما حسب ما ستتمخض عنه المفاوضات.

لا يعود افتقاد المنظمة للقدرة على التحكم في الأمور وتوجيهها وفي الحفاظ على قوة الدافعية والتمثيل التي كانت عليه إلى ظهور أحزاب من خارجها تنازعها تمثيل الشعب الفلسطيني، بل يعود لخلل بنيوي ووظيفي سابق في المنظمة تعزز بعد قيام السلطة 1994 ثم مع الانقسام 2007، الأمر الذي يتطلب بحث الإشكالات الداخلية المنظمة قبل بحث وسائل إدماج حركتي حماس والجهاد، وإعادة النظر في التلازم والاشتراط ما بين إعادة بناء وتفعيل المنظمة وإنهاء الانقسام المرتبط بالصراع على السلطة، كذلك الخروج من اشتراط إعادة بناء وتفعيل المنظمة بإجراء انتخابات مجلس وطني ومجلس تشريعي ورئاسية، وخصوصا أنه لم يحدث في تاريخ المنظمة أن تم انتخاب أعضاء المجلس الوطني والظروف الفلسطينية والعربية اليوم ليست أفضل حالا من الماضي، أيضا التفكير الجاد إن كان يجب إعطاء الأولوية لإعادة بناء وتفعيل المنظمة أم العمل على تحويل القرار الأممي بالاعتراف بفلسطين دولة مراقباً إلى ممارسة سيادية على الأرض من خلال الاشتباك المباشر مع الاحتلال بدلا من العودة مجددا للمفاوضات. ومع ذلك فإن استنهاض المنظمة لتمثل الكل الفلسطيني وتلملم الحالة الوطنية المنقسمة على ذاتها، يبقى الممكن الفلسطيني في ظل المتغيرات وموازين القوى الراهنة.

استحضار بدايات تأسيس منظمة التحرير ضروري لأنه سيخفف من حالة اليأس والإحباط التي تنتاب البعض تجاه إمكانية إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني سواء أخذ تسمية منظمة التحرير أو غيرها من التسميات، فالظروف التي عاصرت تأسيس المنظمة وما صاحب ذلك من جدل وما دهم المنطقة من أحداث – حرب حزيران (يونيو) 1967- تتشابه نسبيا مع الظروف التي نعيشها اليوم، فالمنظمة ظهرت عام 1964 وسط خلافات عربية عربية وصراعات حزبية وعقائدية –قومية وشيوعية ووطنية– وكانت كثير من الأحزاب الفلسطينية خارج المنظمة، أيضا كانت غزة والضفة تحت الاحتلال كما هو الحال اليوم، ومع ذلك فإن الإرادة بإحياء الوطنية الفلسطينية استطاعت التغلب على كل العقبات وتمكن الوطنيون الفلسطينيون من إخراج الشعب الفلسطيني من حالة التيه والوصاية المفروضة عليه، وتم إعادة بناء المنظمة وتصحيح مسارها في ولادتها الثانية عام 1968 لتستوعب كل القوى الفلسطينية وتتحرر من وصاية الأنظمة والإيديولوجيات العربية الرسمية.

القوى الفلسطينية الجديدة – حماس والجهاد – فرضت حضورها في المشهد السياسي نتيجة ممارستها العمل الجهادي –كما جرى مع حركة فتح والفصائل الفدائية منتصف الستينات– وهو الأمر الذي يبرر مطالبتها بالمشاركة في القرار الوطني والمشاركة في تمثيل الشعب الفلسطيني، وهذا من حقهما إن التزمتا بالوطنية الفلسطينية مرجعية وهوية وانتماء. لذا نتمنى أن يتم الاشتغال على إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير دون انتظار أو الخضوع للمتغيرات العربية من حولنا، ودون ربط ذلك بإجراء انتخابات متزامنة للمجلس الوطني وللمجلس التشريعي وللرئاسة، فلإنهاء الفصل بين غزة والضفة وإعادة توحيدهما في إطار سلطة وحكومة واحدة استحقاقات وشروط ليس الفلسطينيون وحدهم اللاعب الوحيد فيها، بينما يمكنهم الاشتغال على إعادة بناء وتفعيل المنظمة بتحرر من الشروط والضغوط الخارجية.

المحور الأول: منظمة التحرير إطار وحدوي جبهوي قائم على التوافق والتراضي

1- منظمة التحرير كتعبير عن الوطنية الفلسطينية الجامعة

 لم يكن سر قوة منظمة التحرير منذ بداياتها الأولى يكمن في قوتها العسكرية بل في قوتها المعنوية والرمزية حيث شكلت منظمة التحرير إطاراً جبهوياً عريضاً مثل كل طبقات وشرائح الشعب الاجتماعية والسياسية وعبرت عن طموحاتهم، وحتى الفصائل والقوى التي كانت تعارض نهج المنظمة لم تكن تنكر الصفة التمثيلية لها، فمنذ تأسيسها جسدت التعددية والشراكة السياسية بصورة مبدعة لم تعرفها أي من الدول العربية التي كانت تعيش في ظل أنظمة الحزب الواحد أو أنظمة ملكية لا تعرف التعددية والشراكة السياسية. لم تكن الشراكة السياسية مؤسسة على ما تفرزه صناديق الانتخابات ولم تقم على المصالح والسعي للمنافع، بل كانت مشاركة في التضحية والعطاء ومشاركة في القرار الوطني، ما منح المنظمة قوة الحضور والتمثيل الفلسطيني هو قدرتها على استيعاب أحزاب بمرجعيات أيديولوجية قومية وماركسية دون اشتراط تخلي هذه الأحزاب عن أيديولوجياتها أو علاقاتها الخارجية، ولكن في المقابل وطنت الأحزاب أيديولوجيتها لتصبح جزءا من المشروع الوطني.

منذ قيام منظمة التحرير عام 1964 فرضت نفسها محليا وعربيا ودوليا كتجسيد للكيانية والهوية الوطنية الفلسطينية وأصبحت المنظمة بمثابة البيت لكل الفلسطينيين، والنظام الذي يستوعب كل الفصائل والأحزاب والجمعيات بغض النظر عن إيديولوجيتها وسياستها ما دامت تلتزم بالإستراتيجية الوطنية وهي إستراتيجية المقاومة، وهذا ما نصت عليه المادة 8 من الميثاق الوطني حيث جاء فيها “المرحلة التي يعيشها الشعب الفلسطيني هي مرحلة الكفاح الوطني لتحرير فلسطين ولذلك فإن التناقضات بين القوى الوطنية هي من نوع التناقضات الثانوية التي يجب أن تتوقف لصالح التناقض الأساسي فيما بين الصهيونية والاستعمار من جهة وبين الشعب العربي الفلسطيني من جهة ثانية، وعلى هذا الأساس فإن الجماهير الفلسطينية سواء من كان منها في أرض الوطن أو في المهاجر تشكل، منظمات وأفرادا، جبهة وطنية واحدة تعمل لاسترداد فلسطين وتحريرها بالكفاح المسلح”.

بالرغم من أن تأسيس المنظمة كان في عام 1964 إلا أنها لم تأخذ صفتها الوطنية إلا في عام 1968، قبل ذلك كانت تابعة للدول العربية فقد تم تأسيسها بقرار من جامعة الدول العربية وهذه الأخيرة هي التي عينت السيد أحمد الشقيري رئيسا للمنظمة، وكانت ميزانيتها من الدول العربية وجيش التحرير الذي تم تشكيله آنذاك كان تابعاً للقيادة العربية المشتركة، حتى ميثاق المنظمة كان يسمى (الميثاق القومي الفلسطيني)، وكان المجلس الوطني الأول في غالبيته مشكلاً من شخصيات مستقلة من كل أماكن الشتات الفلسطيني ويمثلون كل شرائح وطبقات الشعب الفلسطيني، وقد أختارهم احمد الشقيري بما يرضي الحكومات العربية وهو الأمر الذي أثار حفيظة بعض القوى الثورية الفلسطينية .[1]

نظرا لخصوصية تأسيس منظمة تمثل شعبا جزء منه يعيش تحت الاحتلال وغالبيته تعيش في الشتات، فلم يكن ممكنا اللجوء للانتخابات بهذا الشأن وخصوصا أن الدول العربية نفسها التي رعت تأسيس المنظمة لم تكن ديمقراطية وبالتالي لا تؤمن بالانتخابات[2]، كما أنه لم يكن هناك إجماع عند الفلسطينيين حول جدوى إنشاء منظمة تحت رعاية عربية، ومع ذلك لجأ أحمد الشقيري الذي أسندت له جامعة الدول العربية أمر تأسيس منظمة التحرير إلى إجراء اتصالات مكثفة وتشكيل لجان في كل مناطق الشتات لاختيار أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني الأول الذي عُقد في مدينة القدس وكان عدد أعضاء المجلس 397 عضوا، وكانت الطريقة المتبعة أن شكلت في مرحلة أولى لجان تحضيرية من جميع الأقطار العربي المضيفة للفلسطينيين، وبعد ذلك تم تشكيل لجنة للتنسيق – كان عدد أعضائها 35- بين هذه اللجان للتأكد من مراعاة تمثيل الذين تم اختيارهم لمختلف التجمعات والفئات والمهن.[3]  

طوال أربع سنوات (1964- 1968) لم يتعامل الشعب الفلسطيني بجدية مع منظمة التحرير وكان الوطنيون الفلسطينيون والمنتسبون للأحزاب القومية ينظرون لها باعتبارها أداة في يد الأنظمة العربية لكبح الوطنية الفلسطينية الصاعدة والمتمثلة في حركة فتح وفي مواجهة التيار الثوري العربي –حزب البعث وحركة القوميين العرب– وخصوصا أن عبد الناصر الذي كان وراء الدعوة لإنشاء منظمة التحرير كان على خلاف مع هذين الحزبين، ففي المؤتمر الفلسطيني الأول المنعقد في القدس يوم 28 أيار (مايو) 1964 انتقدت حركة القوميين العرب منظمة التحرير “للممارسات اللامعقولة واللا ثورية التي تمارسها قيادة المنظمة ضد العناصر الحزبية الثورية الفلسطينية، وادعت الحركة أن هناك خطة موضوعة من قبل قيادة المنظمة تهدف لإبعاد العناصر الحزبية عن المنظمة”.[4] نفس الموقف عبر عنه حزب البعث العربي الاشتراكي الذي اعتبر أن منظمة التحرير ولدت بمرسوم عربي وبالتالي فهي أسيرة هذه الحكومات واعتبرت الكيان الذي تمثله “فاقدا الاستقلال والشخصية التحررية الثورية”.[5] يضاف إلى ذلك أن حركة فتح الوليدة لم تكن مرتاحة لتأسيس المنظمة ليس رفضا لفكرة وجود كيان يمثل الشعب الفلسطيني بل لاختلاف منطلقات حركة فتح عن منطلقات المنظمة وخصوصا من جهة استقلالية القرار الوطني الفلسطيني وانتهاج طريق الكفاح المسلح لتحرير فلسطين. إلا أنه بعد تأسيس المنظمة تغيرت مواقف الأحزاب القومية والفلسطينية تجاه المنظمة مع العمل على تغيير بنيتها ووظائفها.

لم تكن هزيمة حزيران (يونيو) 1967 مجرد هزيمة للجيوش العربية بل هزيمة لتيار فكري وتوجه سياسي كان يرى أن مصير القضية الفلسطينية مرتبط بتحقيق الوحدة العربية وأن تحرير فلسطين سيكون على يد الجيوش العربية (الوحدة طريق التحرير). هزيمة حزيران (يونيو) رفعت من رصيد حركات المقاومة المسلحة وخصوصا حركة فتح ودفعت الشعب الفلسطيني للالتفاف حول التنظيمات الفدائية التي قررت أن تنهي سيطرة أحمد الشقيري والمستقلين على منظمة التحرير إلا أن هذه العملية احتاجت أكثر من عام من الجدل والحوارات بين الفلسطينيين أنفسهم وبينهم وبين الدول العربية التي ترعى منظمة التحرير.

2- الولادة الثانية لمنظمة التحرير 1968: تجربة تُستلهم وإنجاز يمكن المراكمة عليه

بات وضع قيادة منظمة التحرير وخصوصا أحمد الشقيري محرجا بعد هزيمة حزيران (يونيو) لأنه راهن على الجيوش والأنظمة العربية وكان له مواقف متحفظة تجاه الأحزاب والعمل الفدائي، وقد استشعرت قيادة منظمة التحرير بحرج وضعها بعد هزيمة حزيران وحاولت أن تجاري الحالة الشعبية الفلسطينية المطالبة باللجوء للكفاح المسلح لتحرير فلسطين بدلا من المراهنة على الجيوش العربية التي هزمت خلال أيام، وذلك من خلال إصدار بيانات عن توجه المنظمة نحو ممارسة العمل العسكري، إلا أن هذه الحيلة لم تنطل على حركة فتح التي وجهت يوم 9-12-1967 مذكرة إلى مؤتمر خارجية الدول العربية مشككة في تصريحات الشقيري ومطالبة الإعلام العربي بعدم التعامل معه، وفي 14 من نفس الشهر رفع سبعة من أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة مذكرة للشقيري يطلبون فيها تنحيته عن الرئاسة، كما طالبت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في بيان لها يوم 18-12-1967 بتنحية الشقيري، كل ذلك دفع الشقيري لتقديم استقالته إلى الشعب الفلسطيني يوم 24 -12 من نفس العام وقبلتها اللجنة التنفيذية في اليوم نفسه، وفي اليوم الموالي وجهت اللجنة التنفيذية بيانا إلى الشعب تعده بتشكيل مجلس وطني جديد يمثل إرادة الشعب، وتولى يحيى حمودة رئاسة اللجنة التنفيذية بالوكالة.[6]

استقالة الشقيري لم تؤد تلقائيا إلى عقد مجلس وطني جديد بقيادة جديدة حيث شهد النصف الأول من عام 1968 خلافات بين الأحزاب الوطنية والقومية الفلسطينية وخصوصا بين حركتي فتح والجبهة الشعبية[7] بالإضافة إلى الخلافات بين هذه مجتمعة ومنظمة التحرير، وقد حاولت حركة فتح ومن خلال تميزها بالعمل العسكري أن تقود العمل الوطني بعيدا عن منظمة التحرير حيث دعت لعقد مؤتمر في القاهرة يوم 17-1-19688 “لتحقيق الوحدة ودعم الكفاح المسلح وتصعيده” وقد شكل المؤتمر لجاناً ومؤسسات ووضع له ميثاقاً، إلا أن الجبهة الشعبية ومنظمة التحرير امتنعتا عن حضور المؤتمر[8]. في إطار التنافس والتسابق على قيادة المرحلة لجأت منظمات العمل الفدائي لتكثيف عملها العسكري ضد إسرائيل لكسب مزيد من التأييد الشعبي. بعد نقاشات ووساطة أطراف فلسطينية تم عقد مؤتمر في بيروت يوم 17-3-1968 حضرته حركة فتح والجبهة الشعبية تم فيه الاتفاق على تشكيل مجلس وطني من مئة عضو، وعقد اجتماع ثان يوم 4-4-1968 تم فيه الاتفاق على تشكيل لجنة تحضيرية تتولى اختيار أعضاء المجلس الوطني بالتساوي بين المنظمات الثلاثة – فتح والشعبية وجيش التحرير التابع للمنظمة، إلا أن معركة الكرامة 21 آذار (مارس) ساهمت في تعزيز موقف حركة فتح وفرضت معادلة جديدة.

في تموز (يوليو) 1968 عقد المجلس الوطني دورته الرابعة تحت رئاسة حركة فتح و تمت تنحية أحمد الشقيري وتنصيب يحيى حمودة رئيسا للمنظمة لعدة أشهر إلى أن تم تنصيب ياسر عرفات رئيس حركة فتح رئيسا للجنة التنفيذية للمنظمة وتم تغيير اسم الميثاق من الميثاق القومي إلى الميثاق الوطني مع تغيير بعض البنود لتعبر عن الوطنية والاستقلالية الفلسطينية بشكل أكثر وضوحا، وقد تمحورت التعديلات على ثلاث قضايا: اعتبار الكفاح المسلح الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، والانتقال من القومي إلى الوطني كما تجسد في اسم الميثاق الجديد، استقلالية القرار الوطني، كما تمت إعادة تشكيل المجلس الوطني حيث اتفقت التنظيمات الفدائية على تشكيل مجلس وطني من مئة عضو غالبيتهم من المنتسبين للعمل الفدائي وخصوصا من حركة فتح وكان نصيب هؤلاء أربعين عضوا وكان لجيش التحرير عشرون عضوا ووزعت بقية المقاعد على التنظيمات الشعبية والمستقلين.

إذن بالتوافق والتراضي بين الأحزاب الفلسطينية تم اختيار أعضاء المجلس الوطني الجديد وكانت قيادة منظمة التحرير ممثلة بالمجلس الوطني السابق متجاوبة مع الأمر بل مشاركة فيه لأنها شعرت أنه لم يعد ممكنا بقاء الأمور على حالها وخصوصا بعد استقالة الشقيري، وهكذا بقرار من المجلس الوطني تم تعديل المادة (30) من النظام الأساسي وكانت صيغة القرار: “يحل المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في القاهرة بتاريخ 10-7-1968 محل المجلس الوطني الانتقالي السابق لمنظمة التحرير ويمارس جميع الصلاحيات المنوطة به بمقتضى هذا النظام”. كانت قاعدة المجلس الوطني تتوسع مع مرور الأيام بحيث لم تعد منظمة أو حركة فلسطينية أو مؤسسة شعبية إلا ممثلة في منظمة التحرير، فالمنظمة لم تكن علبة مغلقة أو إطارا مقفلا مقتصرا على حزب أو أحزاب بعينها، فكل حزب جديد أو اتحاد شعبي جديد يظهر على الساحة يصبح تلقائيا جزءا من منظمة التحرير التي هي تحالف لكل القوى المناضلة من أجل تحرير فلسطين وهو ما تم تأكيده في نصوص الميثاق.

بعد 1969 باتت المنظمة تمثل فعلا كل الشعب الفلسطيني بتياراته المتعددة –القومية واليسارية والوطنية– أما الفلسطينيون المنضوون في أحزاب دينية وخصوصا جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي  فكانوا بعيدين عن الانشغالات الوطنية حيث لهم مشروعهم الإسلامي الخاص بهم، كما أنهم كانوا رافضين للعمل الفدائي بالإضافة إلى خلافهم مع الأنظمة العربية وخصوصا نظام جمال عبد النصر. ومن هذه الصفة التمثيلية لم تغلق المنظمة أبوابها أمام أي فلسطيني أو فصيل فلسطيني يسعى للنضال من أجل التحرير بل ذهب ميثاق المنظمة أبعد من ذلك معتبرا بأن أي فلسطيني هو تلقائيا عضو في المنظمة وهو أمر قد يبدو متناقضا مع مبدأ حرية الانتماء ولكن يمكن تفهم هذا الأمر إذا عرفنا بأن المنظمة لم تضع شروطا للانتماء لها حيث نصت المادة 4 من الميثاق على: “الفلسطينيون جميعاً أعضاء طبيعيون في منظمة التحرير الفلسطينية يؤدون واجبهم في تحرير وطنهم قدر طاقاتهم وكفاءاتهم والشعب الفلسطيني هو القاعدة الكبرى لهذه المنظمة”. وبهذه الصفة التمثيلية الشمولية ليس للأحزاب بل للشعب كله أصبح المجلس الوطني الفلسطيني وكما جاء في النظام الأساسي للمنظمة هو الهيئة التمثيلية التشريعية العليا للشعب الفلسطيني بأسره داخل فلسطين وخارجها والذي يعتبر حسب نص المادة 7-أ من النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية هو السلطة العليا لمنظمة التحرير، وهو الذي يضع سياسة المنظمة ومخططاتها… ويختص بكافة المسائل الدستورية والقانونية والسياسية العامة المتعلقة بالقضايا المصيرية للشعب الفلسطيني وكل ما يتعلق بمصالحة الحيوية العليا، وبهذه الصفة التمثيلية تمكنت المنظمة من الحصول على اعتراف عربي ودولي بها عام1974  فأصبحت عضوا في جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها من المنظمات الإقليمية وعضوا مراقبا في هيئة الأمم المتحدة وأصبح لها أكثر من مئة سفارة ومكتب تمثيل في العالم، بل إنه على أثر الصدامات الدموية بين أهلنا في فلسطين المحتلة وقوات الاحتلال في يوم الأرض 30 آذار (مارس) 1976 صدر بيان عن فلسطينيي الخط الأخضر يعلنون فيه أن المنظمة تمثلهم أيضا.

بالرغم من كل ملابسات وتحديات تأسيس المنظمة إلا أنها استطاعت أن تخرج القضية الفلسطينية من تحت الوصاية العربية وأن تعبر عن الهوية الفلسطينية الجامعة لكل التيارات، حتى وإن وجدت خلافات عقائدية أو أيديولوجية بين فصائل المنظمة فإن قيادة المنظمة والحرص الوطني من الجميع كانا كفيلين بتجسير الفجوة بين المواقف أو إدارة الخلافات بطريقة لا تسيء إلى القضية الوطنية.

بالرجوع إلى ملابسات تأسيس المنظمة والأسباب التي صيرتها ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني فإن ظهور المنظمة شكل منعطفاً مصيرياً في التاريخ الحديث للشعب الفلسطيني للأسباب التالية:-

1-  أنها عبرت عن الهوية الوطنية الفلسطينية التي كانت معرضة للتبديد، وأخرجت الشعب الفلسطيني من حالة اللجوء والوصاية واليأس والإحباط وجعلت القضية الفلسطينية قضية شعب يناضل من أجل الحرية والاستقلال؟.

2- ممارستها الكفاح المسلح قي مواجهة العدو، فصفتها التمثيلية للشعب واعتراف العالم بها استمدا من حضورها كحركة تحرر وطني وانطلاقا من حق الشعوب بتقرير مصيرها الوطني. كان العمل الفدائي داخل الكيان الصهيوني أو عبر الحدود الأردنية واللبنانية أو خارج فلسطين هو ما جعل الشعب الفلسطيني يلتف حول فصائل المقاومة وخصوصا حركة فتح وبالتالي حول المنظمة عندما سيطرت هذه الفصائل على المنظمة عام 1968، وكان عام 1974 عام الاعتراف بها ممثلا شرعيا ووحيدا هو عام ظهور إستراتيجية جديدة توفق ما بين المقاومة والنضال السياسي والدبلوماسي.

3-  كانت قوة المنظمة مستمدة بالإضافة إلى ذلك من حفاظها على استقلالية القرار الوطني في مواجهة كل التحديات الخارجية. ما كانت المنظمة تستحق صفة الممثل الشرعي والوحيد للشعب لو لم تكن تملك قرارا مستقلا بالرغم من التحديات والمعارك التي خاضتها المنظمة للحفاظ على استقلالية هذا القرار والمزالق الناتجة عن التفسير السيء والممارسة الخاطئة أحيانا لاستقلالية القرار.

4- كونها إطارا جامعا للكل الفلسطيني مفتوحا للفلسطينيين جميعا أفرادا وجماعات بغض النظر عن الأيديولوجيات، ففيها تعايشت مختلف الأطياف السياسية، يسارية وقومية وعلمانية وإسلامية ووطنية، مسلمون ومسيحيون ويهود.

إذن منظمة التحرير التي نتحدث وندافع عنها هي المنظمة الملتزمة بالشروط المشار إليها أو التي لم تفقد الإمكانية لتصحيح نفسها لتكون كذلك، منظمة تحرير تحمل وتحمي المشروع الوطني التحرري الذي لم يُنجز بعد، وبالتالي فإن الحق بقيادة منظمة التحرير ليس حكرا على أحد، لا أشخاصاً ولا أحزاباً، بل هي ملك لمن يستطيع أن يكون أمينا لما مثلته المنظمة ولمن يقدر أن يحمل ويحمي هذا المشروع، كما أن مجرد الانتماء للمنظمة أو تبوء مواقع قيادية في ظروف تاريخية سابقة لا يمنح شرعية لأحد. إن أي حزب أو قائد أو حكومة لا يمكنه الزعم بالشرعية لمجرد عمله تحت مظلة المنظمة فالتاريخ لا يمنح شرعية سياسية لأحد وكذا الحال فإن الدين لا يمنح شرعية سياسية لأحد، بل الشرعية تُستمد من الالتزام بروح المنظمة وبرنامجها التحرري بكل مضامينه.

المحور الثاني: حماس والمنظمة: بين الاعتراف المشروط والبديل المنتظر

1- ظهور حماس كمشروع (إسلامي) متعارض مع المشروع الوطني

بقيت منظمة التحرير رائدة النضال الوطني وممثلة الشعب الفلسطيني بلا منازع حتى ظهور حركتي الجهاد الإسلامي وحماس كقوة شعبية جهادية من خارج منظمة التحرير وببرنامج ديني سياسي بمرجعيات وأهداف وتحالفات متعارضة مع البرنامج الوطني، وقد أثبتت هذه القوى وجودها خلال الانتفاضة الأولى 1987.[9] إن كان ظهور هذه القوى عزز من الانتفاضة واستقطب شرائح شعبية داخلية وخارجية داعمة للشعب الفلسطيني، إلا أنها شكلت حالة انقسام حاد في النظام السياسي الفلسطيني مهدت بدورها لانهيار هذا النظام لاحقا. بالإضافة لظهور الإسلام السياسي الفلسطيني بأجندة مغايرة لبرنامج منظمة التحرير أوجد اتفاق أوسلو الذي وقعته منظمة التحرير مع إسرائيل عام 1993 خلخلة في مصداقيتها وثوابتها بل وشكك في صفتها التمثيلية، وبهذين المتغيرين باتت ثوابت البرنامج الوطني التي جسدتها منظمة التحرير الفلسطينية أقل بكثير من المتغيرات التي طرأت عليها.

لم يتبلور موقف واضح لحماس من المنظمة حيث تفاوتت المواقف ما بين القبول المشروط بالمنظمة والرفض، وبينهما مواقف غامضة كانت تُحدد حسب متغيرات موازين القوى والمتغيرات الإقليمية والدولية. ميثاق حماس أشار للمنظمة بصورة غامضة عندما قال: “بأن المنظمة من أقرب المقربين إلى حركة المقاومة الإسلامية ففيها الأب والأخ أو القريب أو الصديق وهل يجفو المسلم أباه أو أخاه أو قريبه أو صديقه؟ فوطننا واحد ومصابنا واحد ومصيرنا واحد وعدونا مشترك”، إلا أن هذا القول المطمئن يتلاشى عندما يرفض الميثاق الطابع العلماني للمنظمة بالقول: “أننا لا نستطيع أن نستبدل إسلامية فلسطين الحالية والمستقبلية لنتبنى الفكرة العلمانية… ويوم تتبنى المنظمة الإسلام كمنهج حياة فنحن جنودها ووقود نارها التي تحرق الأعداء”. بعد عام تقريبا على صدور ميثاق حماس وفي مقابلة صحافية مع مجلة فلسطين المسلمة، وردا على سؤال حول اعتراف حماس بالمنظمة كممثلة للشعب الفلسطيني ميز الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة حماس ما بين المنظمة كإطار وطني والمنظمة كتوجه سياسي وبنية قائمة، فالمنظمة كإطار وطني كما ورد في الميثاق من حيث الأهداف والتشكل مقبولة من حماس، أما المنظمة كتوجه سياسي حالي يعترف بإسرائيل وبقرارات الشرعية الدولية فهي مرفوضة، وفي مقابلة معه في السجن قال بأن المنظمة تمثل فلسطينيي الخارج فقط ولا تمثل فلسطيني الداخل وفي نفس المقابلة قال: “أريد دولة ديمقراطية متعددة الأحزاب، السلطة فيها لمن يفوز في الانتخابات”. في 1990 تحدثت حماس بنغمة تصالحية وذلك على لسان محمود الزهار الذي قال بأن المنظمة تمثلنا جميعا، وقامت حماس بتعيين ممثل غير رسمي لها في المجلس المركزي للمنظمة، ولكن عندما فكرت المنظمة بعقد اجتماع للمجلس الوطني في ربيع نفس السنة طالبت حماس بـ40 بالمائة من المقاعد واشترطت إلغاء البرنامج السياسي –بيان إعلان الاستقلال لعام 1988- وردت فتح بقوة ففي مقال في مجلة فلسطين الثورة لشهر يوليو جاء فيه أن المنظمة ليست حزبا من أحزاب الدولة وإنما هي الدولة.

في مذكرة وجهتها حماس للمجلس الوطني في نيسان 1990 حددت حركة حماس الشروط التي على أساسها يمكن الدخول للمجلس الوطني الفلسطيني وهي عشرة شروط، أهمها اعتبار فلسطين وحدة واحدة من البحر للنهر والتأكيد على الكفاح المسلح وشروط أخرى، وهذا موقف وسطي يستشف منه أنها ليست ضد المنظمة من حيث المبدأ ولكنها ضد الخروج عن ميثاق المنظمة، وأضافت شرطا هو أن تُمثل بالمجلس بنسبة تتراوح بين 40و50 بالمائة. مع مشاركة المنظمة في مؤتمر مدريد تعمقت الخلافات بين الطرفين، وانتقدت الحركة قرارات المجلس الوطني في الجزائر في أيلول (سبتمبر) 1991 -الدورة التي أقرت المشاركة في مؤتمر مدريد- معتبرة أن المجلس الوطني الفلسطيني بتشكيلته الحالية غير مؤهل لاتخاذ قرارات مصيرية، بل وصل الأمر للتحفظ على شرعية تمثيل المنظمة.

عندما تم إبعاد 400 شخصية في كانون الأول (ديسمبر) 1992 توترت العلاقة بين الطرفين مجددا وتوسطت السودان بين الطرفين وجرت مفاوضات في الخرطوم وطالبت حماس بنسبة 45% من مقاعد المجلس مما أدى لانهيار الحوار وحمَّل أبو عمار المسؤولية لممثلي حماس بعمان مشيرا إلى وجود تباين في المواقف بين جناح الداخل وجناح الخارج في الحركة، مما دفع بمحمد نزال أحد قادة حماس في الخارج للمطالبة باستقالة قيادة المنظمة، إلا أنه في حزيران (يونيو) تراجعت حماس عن موقفها المتشدد وأعلنت على لسان إبراهيم غوشة بأن المنظمة هي الإطار السياسي لجميع أبناء الشعب.

أوجد اتفاق أوسلو الذي وقعته منظمة التحرير مع إسرائيل عام 1993 انشقاقا كبيرا بين الفلسطينيين وزاد من تأزم العلاقة بين منظمة التحرير وحركة حماس، فحيث إن تأسيس السلطة جاء في إطار تسوية مرفوضة من طرف حركة حماس -والجهاد الإسلامي أيضا- فقد رفضت حركة حماس الاعتراف بالسلطة بداية ثم قبلت بها كأمر واقع دون أي تعاون يذكر، وهي أساسا لم تكن راغبة بالانضواء في النظام السياسي الذي تمثله منظمة التحرير الفلسطينية بل وقفت موقفا معاديا من السلطة وبذلت كل ما من شأنه أن يعيق عملها أو يسيء لسمعتها، وسنلاحظ لاحقا كيف غيرت حماس موقفها من المشاركة بالنظام السياسي وبالسلطة عندما دخلت الانتخابات التشريعية وأصبحت هي السلطة.

2-  الانتخابات التشريعية 2006 تؤسس للانقسام بدلا من تعزيز المشاركة السياسية

لم يكن فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية مجرد فوز لحزب على بقية الأحزاب في انتخابات تشريعية تعرف مثيلا لها غالبية دول العالم، بل كان انقلابا على منظمة التحرير وسلطتها عبر صناديق الانتخابات، وكان زلزالا زعزع مرتكزات النظام السياسي، ولكنه ليس زلزالا من حيث اكتساح حركة حماس لغالبية مقاعد المجلس التشريعي بل من حيث التداعيات القانونية والإستراتيجية لهذا الفوز على مجمل الصراع في المنطقة وعلى المرجعية القانونية والشرعية للشعب الفلسطيني وهو الموضوع الذي لم يتطرق له المحللون بعد. لو كان الفوز من نصيب حزب من أحزاب منظمة التحرير ما كان الأمر يثير إشكالات كثيرة، ولو فازت حماس وأخذت موقعها كحزب معارض بالمجلس التشريعي واستمرت السلطة بيد حركة فتح أو تحالف من فصائل منظمة التحرير أيضا لكان الأمر قابلاً للتعامل معه ضمن نفس الثوابت والمرجعيات المؤسسة والمسيرة للنظام السياسي، ولكن مَن فاز هي حركة حماس التي هي خارج منظمة التحرير وخارج النظام السياسي ولها ميثاقها الخاص بها والذي يعتبر بديلا لميثاق منظمة التحرير، ومن المعلوم أن كل المحاولات التي جرت لإدماج حركة حماس في منظمة التحرير قد باءت بالفشل.

مفترض أن تكون الانتخابات مجرد انتخابات لمجلس تشريعي لسلطة حكم ذاتي منبثقة عن اتفاقية أوسلو، وهذا يعني أن صلاحيات المجلس التشريعي والحكومة التي ستنبثق عنه لن تتعدى إدارة أمور الفلسطينيين داخل المناطق التي تسيطر عليها السلطة وإصلاح أوجه الخلل في أداء السلطة، أما القضايا الإستراتيجية كالاعتراف بإسرائيل والمفاوضات والعلاقات الخارجية فليست من اختصاص السلطة الوطنية أو الحكومة بل من اختصاص منظمة التحرير الفلسطينية التي هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وهي بصفتها هذه وقعت الاتفاقات. وبالتالي لا يمكن لمجلس منتخب من جزء من الشعب لممارسة حكم ذاتي على جزء من الوطن أن يتحدث باسم كل الشعب الفلسطيني ويطرح نفسه ممثلا عنه مُغيبا الممثل الشرعي والوحيد -منظمة التحرير الفلسطينية.

مع عدم تجاهل حركة حماس كحزب انتخبه الشعب في الضفة وغزة وله تاريخه النضالي، ومع الإقرار بأن تهميش منظمة التحرير بدأ على يد أصحابها وبأن سلطة فتح فشلت -أو أفشلت- في الارتقاء لطموحات الشعب، إلا أن حماس بمشروعها الديني الذي هو امتداد لقيادة خارجية ومشروع يتجاهل الهوية الوطنية والاستقلالية الوطنية، لا يمكنها أن تكون إطارا مستوعبا وموحدا لكل فئات الشعب وأحزابه السياسية، فيما منظمة التحرير يمكنها أن تكون كذلك ولكن بطبيعة الحال بعد إنهاضها من كبوتها وبث الروح فيها واستيعابها لكل القوى السياسية الجديدة وخصوصا حماس والجهاد الإسلامي، ونعتقد بأن ميثاق المنظمة وقانونها الأساسي من المرونة والأريحية السياسية والعقائدية بما يسمح بأن تمثل كل أطياف المشهد السياسي الفلسطيني.

طرح موضوع المنظمة للنقاش مبرر ومشروع، والدعوة لتفعيلها وإعادة بنائها أمر مشروع حتى الحديث عن قيادة جديدة للمنظمة أيضا أمر مشروع ومبرر، وفي هذا السياق يصبح من حق حركة حماس أو غيرها التطلع لقيادة المنظمة وبالتالي قيادة الشعب الفلسطيني، إلا أن ما يؤخذ على حركة حماس هو أنها منذ تأسيسها لم تكن جادة بأن تكون جزءا من منظمة التحرير ومن المشروع الوطني بل كانت تتطلع لتكون بديلا وبالتالي كانت مواقفها وممارساتها معارضة بل معيقة لجهود المنظمة لتفعيل ذاتها أو التقدم نحو تحديث وتطوير النظام السياسي، أيضا يؤخذ على حركة حماس أنها تتحدث عن بديل للمنظمة وليس تفعيلها مما يعزز حالة الانقسام والقطيعة وخصوصا قي ظل وجود (كيانين) سياسيين منفصلين في الضفة وغزة، كما أن عدم وضوح البعد الوطني عند الحركة وتركيزها على الأيديولوجيا الإسلامية  يؤسس لحالة من القلق والخوف عند الوطنيين الفلسطينيين من فصائل منظمة التحرير، ويطرح تساؤلا حول قدرة حركة حماس على التعايش مع والقبول بحركات وتيارات ليبرالية وبسارية وعلمانية تختلف أيديولوجيا مع حركة حماس، أيضا فإن طرح موضوع القيادة الجديدة للشعب أو تفعيل المنظمة خارج إطار الحوار والمصالحة الوطنية لن يساعد على تفعيل المنظمة بل يؤشر لتأسيس قيادة موازية مرتبطة بمرجعية خارجية مما يُغيب استقلالية القرار الوطني.

المحور الثالث: ضرورة الفصل بين استحقاقات المشاركة في  المنظمة واستحقاقات السلطة

1- إنهاء الانقسام – فصل غزة عن الضفة- يحتاج لأكثر من إرادة فلسطينية

ربطت الورقة المصرية للمصالحة ما بين إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية وإنهاء الانقسام بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، وقد تجلى هذا الربط من خلال اشتراط انتخابات متزامنة للمجلس الوطني وللمجلس التشريعي وللرئاسة، وفي ظني سيكون من الخطورة رهن إعادة بناء وتفعيل المنظمة بمآل الانقسام لأن ما جرى في 14 حزيران (يونيو) 2007 ليس بسبب خلافات  بين فتح ومعها السلطة من جانب وحماس من جانب آخر، حتى الصورة التي راجت حول كون الخلاف يدور بين مشروع إسلامي تقوده حركة حماس ومشروع وطني تقوده حركة فتح لا تعكس الواقع  تماما أو لا تعبر عن كل المشهد، بل كانت تسويقا للخلاف يخفي حقيقة المخطط، ويضفي شرعية ما على كل طرف، حيث يسمح لحماس بأن تزعم بأنها تمثل المشروع الإسلامي الجهادي، ويسمح لحركة فتح والسلطة زعم بأنهما يمثلان المشروع الوطني.

ما جرى ويجري بشأن الانقسام هو مخطط استراتيجي إسرائيلي شارك فيه بشكل مباشر أو غير مباشر-بعلم ومشاركة من البعض وبجهل من آخرين- مَن يُفترض أنهم أعداء: قيادات من فتح والمنظمة والسلطة، وقيادات من حماس، وإسرائيل وواشنطن، ولعبت أنظمة عربية دور العراب وخصوصا مصر التي تكفلت بفتح والسلطة، وقطر التي تكفلت بحركة حماس. كان هذا المخطط في حالة كمون ولكن محل تفكير في مراكز القرار الإسرائيلي منذ توقيع اتفاقات أوسلو، وانتقل من التفكير إلى التنفيذ عندما فشلت حوارات كامب ديفيد واندلعت الانتفاضة عام  2000، وبات يطبخ على نار هادئة عام  2002 عندما تمت محاصرة الرئيس أبو عمار في المقاطعة وأخيرا تم تنفيذه تحت عناوين مخادعة، كالقول بالحسم العسكري بالنسبة لحماس والانقلاب بالنسبة لحركة فتح، فيما الحقيقة أنه لم يكن لا حسما ولا انقلابا بل مخططا إسرائيليا، ولو لم تنسحب إسرائيل من القطاع عام 2005 ما كانت حركة حماس سيطرت على القطاع عام 2007.

حتى آخر لحظة كان يراودنا الأمل بأن تكون رؤيتنا للأمر غير صحيحة وأن المصلحة الوطنية والانحياز للوطن وللشعب سيتغلبان على أي حسابات ضيقة عند الأحزاب السياسية، ولكن للأسف فإن القوى الدافعة نحو الانقسام والمستفيدة منه أقوى من قوى المصالحة والمصلحة الوطنية، كانت سيرورة الأحداث وموازين القوى تخدم هذا التوجه. كان كل يوم يمر على حماس وهي في السلطة يبعدها عن نهج المقاومة وعن المصالحة الوطنية، حيث كان عليها أن تختار بين السلطة والمقاومة، وبين السلطة والمصالحة، وقد خيرتها تل أبيب وواشنطن بين الأمرين أكثر من مرة وبطرق مباشرة وغير مباشرة، ويبدو أنها اختارت السلطة على حساب المقاومة والمصالحة. كان كل يوم يمر على الانقسام يُنتج ويؤسس في قطاع غزة ولدى حماس في الخارج نخباً جديدة ومكاسب وارتباطات وواقعاً يجعل التراجع أكثر صعوبة، أيضا كان كل يوم يمر على السلطة في الضفة إلا ويجعلها أكثر ضعفا وبالتالي أكثر ارتهانا للشروط الأمريكية والإسرائيلية وأكثر مسايرة لهما على طاولة المفاوضات، وأكثر استسلاما لواقع الانقسام.

وعليه، لم تكن كل الذرائع التي تقول بها فتح وحركة حماس لتبرير عدم نجاح الحوارات أو للتهرب من المصالحة أو لتبرير الانقسام وما ترتب عليه من تداعيات في الضفة وغزة …، لم تكن هذه الذرائع صحيحة والقائلون بها كانوا يدركون أنهم يكذبون على الشعب، فلا الانفلات الأمني والاغتيالات والاعتقالات قبل (الانقلاب) كانت سببا فيما حدث، ولا الانتخابات ونتائجها كانت سببا فيما جرى بل كانت جزءا من المخطط، كما لم يكن التنسيق الأمني لحكومة دكتور فياض مع إسرائيل، ولا تدخل الأطراف الخارجية ولا الاعتقالات المتبادلة ولا تقرير جولدستون الخ، السبب في إعاقة المصالحة، هذه تداعيات لمواقف وسياسات كانت معدة مسبقاً، وكان لا بد لهذه التداعيات أن تحدث، وبالتالي فهذه نتائج وليست أسباباً. لقد لعبت كل الأطراف المشاركة برضاها أو عجزا وقهرا دورها بإتقان لخداع الشعب وتمرير التسوية القائمة (تسوية الانقسام)، وإسرائيل العقل المدبر والداعم لوجستيا للانقسام تراقب وتوجه الأمور لتستمر حالة الانقسام إن لم يكن إلى ما لا نهاية فعلى الأقل لتوظف هذا الانقسام لحين استكمال مخططاتها الاستيطانية والتهويدية في الضفة والقدس ولتعيق مسار السلام لأطول فترة ممكنة، كما أن واشنطن معنية باستمرار حالة الانقسام لأن مصالحها تتلاقى مع المصلحة الإسرائيلية ولأنها لا تجد ضغوطا جادة من العرب والمسلمين عليها، بل كل مسايرة وخضوع، والتحركات الأمريكية الأخيرة التي توجت بإعادة المفاوضين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى طاولة المفاوضات لا تعبر عن إرادة حقيقية لإنهاء الصراع على قاعدة قيام دولة فلسطينية على حدود 1967 بما فيها القدس وعودة اللاجئين، بل ترمي لمنح إسرائيل مزيدا من الوقت لاستكمال مخططاتها الاستيطانية، وانتظار تطور الأحداث في مصر وخصوصا في سيناء، وربما البعض يراهن على تنفيذ مخطط إسرائيل لتوسيع غزة في سيناء لتصبح غزة الدولة الفلسطينية الموعودة.[10]

فتح وحماس ومصر الراعية للمصالحة يدركون أن لا مصالحة تنهي الانقسام إلا ارتباطا بالتسوية السياسية، فلا ينُتظر أن تؤسِس المصالحة التي ترعاها الحكومة المصرية، حكومة مقاومة أو حكومة تنقلب على السلطة والتزاماتها، وحتى مصر لن ترعى أو تقبل بمصالحة تؤدي لهذه النتيجة –خصوصا بعد سيطرة الجيش على السلطة-، وحيث أنه لا يوجد أفق لنجاح تسوية خطة خارطة الطريق أو أية تسوية سياسية ناجزة، فلا مصالحة فلسطينية تؤسِس لسلطة وحكومة واحدة في الضفة وغزة. إلى أن تظهر تسوية سياسية جديدة وجادة وقابلة للتنفيذ وتلبي ولو الحد الأدنى من الحقوق السياسية للفلسطينيين، أو تتوفر شروط مقاومة حقيقية، فإن تسوية الأمر الواقع أي تسوية الانقسام ستستمر بمفاعيلها المدمرة، وحتى لا تستمر بهذا الشكل وحتى لا تزيد من حالة الكراهية والعداء بين أبناء الشعب الواحد وبما يمكن إسرائيل من استغلال هذه الحالة لتتفرد بكل طرف على حدة… يجب التفكير بمصالحة جديدة وشراكة سياسية جديدة متحررة من استحقاقات والتزامات السلطة.

بعد كل ما جرى يجب التفكير بعقلانية وواقعية بمصالحة ولكن ضمن مفهوم جديد وأسس وطنية جديدة خارج استحقاقات التسوية واستحقاقات الصراع على السلطة، مصالحة تؤسس لمشروع وطني يتعامل مؤقتا مع  واقع الانقسام. مشروع وطني جديد ليس مشروع سلطة وحكومة بل مشروع حركة تحرر وطني، مشروع يشكل بديلا لنهج التدمير الذاتي الذي تمارسه الفصائل بحق قضيتنا وشعبنا. هذا المشروع حتى يكون وطنيا بالفعل يجب أن يكون مشروع الكل الفلسطيني في الداخل والخارج وهذا يتطلب تفعيل دور نصف الشعب الفلسطيني الذي رُكن على الرف منذ توقيع اتفاقات أوسلو، وأن يضع هذا المشرو&

الاخبار العاجلة
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لمنحك أفضل تجربة ممكنة.
موافق