في يوليو 2024 كتبنا مقالاً بعنوان (حتى لا تكون حرب أهلية في غزة بعد حرب الإبادة الإسرائيلية) وبعد موافقة حماس على مبادرة ترامب التي تنص على نزع سلاح حركة حماس تمنينا في بوست منشور أن تعمل حركة حماس مصالحة مع أهالي غزة حتى لا تنزلق الأمور إلى الحرب الأهلية التي سبق وأن حذرنا منها، وخصوصاً أن حماس فقدت غالبية حاضنتها الشعبية في القطاع بل وصنعت عداوات بينها وبين غالبية الشعب .
ولكن حدث العكس حيث قامت بمهاجمة بعض العائلات مثل المجايدة ودغمش وأبو وردة وسقط العشرات قتلى من الطرفين، كذلك قمع وتهديد خصومها السياسيين وقامت بإعدامات ميدانية للعشرات بحجة أنهم عملاء لإسرائيل.
مع إننا طالبنا مبكراً بنزع سلاح حماس وتحويل القطاع لمنطقة منزوعة السلاح بعد أن أدى توظيف هذا السلاح في الانقلاب أولا على السلطة عام 2007 ثم ربطه بأجندة خارجية وبمحور المقاومة ووحدة الساحات الذي تقوده إيران وبعد عملية طوفان الأقصى التي وظفها العدو لشن حرب إبادة وتطهير عرقي في القطاع والضفة بل وطالبنا باعتبار الحركة جماعة خارجة عن القانون الفلسطيني …، إلا أن نزع سلاح حماس وبالصيغة الواردة في مبادرة ترامب مسألة شائكة ومعقدة وتقبل أكثر من تفسير.
كانت مبادرة ترامب معنية أساساً بإنجاز المرحلة الأولى وهي إطلاق سراح المخطوفين الإسرائيليين وهو ما تم إنجازه وتم الاحتفاء به في مهرجان قمة شرم الشيخ، أما تنفيذ بقية المراحل فأمرها متروك لحسن نوايا حماس وإسرائيل وللبنود السرية في الاتفاق، وهذا اليوم صرح القيادي الحمساوي موسى أبو مرزوق في مقابلة مع قناة الجزيرة بأن حماس وافقت على المرحلة الأولى فقط من مبادرة ترامب !
نزع سلاح حركة حماس بما يحقق السلم الأهلي الذي هو أهم من حفظ أمن إسرائيل يتطلب رؤية واستراتيجية عمل وطني وعربي ودولي حول كيفية التعامل مع أكثر من مائة ألف من عناصرها المقاتلين والموظفين المدنيين المرتبطين بحكومتها وعائلاتهم، وإذا ما تم نزع سلاح حركة حماس فماذا بالنسبة لسلاح الأفراد والعائلات؟
المشهد الذي شاهدناه أمس وتكرر اليوم لقيام مسلحي حماس بالإعدام الميداني لعشرات المواطنين بتهمة التعامل مع العدو وحشدها العشرات من المؤيدين لها ليكبروا ويهللوا لمشهد الاعدامات مؤشر خطير على ما هو قادم لغزة من أهوال لن تقل خطورة عن حرب إسرائيل عليهم وستستغل إسرائيل ومن يؤيدها في الغرب مشاهد هذه الاعدامات في محاولة لتحسين صورتها القبيحة في العالم والزعم إنها على حق في رفض قيام دولة فلسطينية، أيضا لتبقى قطاع غزة جاذبا للاهتمام العالمي بما يُبعد الأنظار عما يجري في الضفة من توسيع متسارع للمشاريع الاستيطانية وهدم للمخيمات والقرى وتضييق على حياة الشغب والسلطة الفلسطينية بحيث لم تعد إسرائيل بحاجة لتعلن ضم الضفة.
نتفهم حالة الرعب والذعر وحجم تخوفات حماس من أن ينقلب عليها فلسطينيو غزة ولكن كان أمامها أكثر من فرصة للتجاوب مع مبادرات القيادة الفلسطينية والسلطة ودول عربية وإسلامية طالبتها بالتوقف عن المكابرة والمعاندة وقبول تسليم الحكم وكل ملف المفاوضات لهذه الجهات وخصوصاً السلطة الفلسطينية ومصر، ولكنها استمرت في تسليم مقاليد أمورها لدولة قطر التي تلاعبت بهم لإطالة أمد الحرب كما انساقت لتشجيع المتحمسين والمؤيدين من جماعات الإسلام السياسي والمتحمسين عاطفيا مع فكرة مقاومة الاحتلال دون علم بما يجري حقيقة في قطاع غزة لتستمر بالحرب حتى تحرير فلسطين وتبييض السجون !، كما تم التغرير بها من طرف مرتزقة الفضائيات وخصوصاً الجزيرة ،وكل هؤلاء أوهموها أنها قادرة على تحقيق النصر على العدو وأن إسرائيل على وشك الانهيار (وما النصر إلا صبر ساعة).
سبق وأن أبدينا تخوفنا من نوايا إسرائيل وأمريكا في قبول استمرار وجود سلطة لحماس في القطاع ليس حباً فيها ولكن للحفاظ على حالة الانقسام وحتى تحدث الحرب الأهلية التي يريدونها، ولأن لا ضمانه بنجاح ما ورد في خطة ترامب من إدارة القطاع من طرف لجنة فلسطينية محلية تحت إشراف مجلس السلام العالمي بقيادة ترامب وإدارة توني بلير ودخول قوات عربية ودولية، وتحديدا في المدى القريب.
نعتقد أن حركة حماس ما كانت تُعيد انتشار قواتها علنا وتمارس هذه الاعدامات وتصفية الحسابات مع خصومها السياسيين إلا لأن هناك من وعدها بأنها ستستمر متواجدة في المشهد السياسي وبحكم قطاع غزة في المرحلة الانتقالية، وما يعزز هذا الاحتمال هو أنه عندما سُئل ترامب عما يجري في القطاع من انتشار مسلحي حماس وعودة مؤسسات سلطة حماس للعمل قال إنه أعطى موافقة لحماس لتقوم بذلك لحفظ الأمن!
صحيح قد يكون بعض من تم إعدامهم من اللصوص ولكن من المشكوك فيه إنهم جواسيس لأنه من غير المعقول إعدام جواسيس بموافقة أمريكية وإسرائيلية.
استمرار الانقسام السياسي ما بين معسكرين: الأول يضم حركة حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية والمبادرة الوطنية، والثاني منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية ودولة فلسطين حتى مع استمرار الالتباس بينهم، هذا الانقسام وغياب حوار وطني حقيقي وحتى عدم وجود اهتمام لا وطني ولا عربي بحوارات المصالة، كل ذلك سيؤدي إلى ما حذرنا منه في مقال في يونيو 2021 بعنوان (الحذر من تجزئة القضية وتعدد مسارات التفاوض) يجعلنا أمام ثلاث مسارات تفاوضية:
المسار الأول أمريكي إسرائيلي مع حماس وفصائل المقاومة في غزة حول مستقبل قطاع غزة.
والمسار التفاوضي الثاني بين إسرائيل وواشنطن من جانب والسلطة والدول المانحة والمؤيدة للفلسطينيين من جهة أحرى حول مستقبل السلطة في الضفة وما لها من صلاحيات.
والمسار التفاوضي الثالث والذي حتى الآن لا تشارك فيه تل أبيب وواشنطن وهو الأهم، فهو مسار التفاوض الذي تقوده دولة فلسطين لكسب مزيد من الاعترافات بها كدولة تحت الاحتلال ثم الهدف الأكثر صعوبة وهو الوصول للدولة الفلسطينية المستقلة ،والتقدم في مسار انهاء الانقسام سيكون عاملا مساعدا في تقدم المسارين الأولين.
Ibrahemibrach1@gmail.com