ما قبل حرب حزيران 1967 والاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة وأراضي عربية أخرى شهد القطاع أهم الانتفاضات الشعبية في مارس 1955 حيث أفشلت المظاهرات التي اندلعت عفويا مشروعا أمريكيا لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء، وكان القطاع آنذاك خاضعا للإدارة المصرية ولا يوجد به كيانات أو سلطات سياسية فلسطينية ،وقد تصدر الانتفاضة شخصيات وطنية وأهمهم معين بسيسو من الحزب الشيوعي، ولو نجح هذا المشروع فربما انتهت القضية الفلسطينية أنداك، كما استنهضت هذه الانتفاضة الحالة الوطنية وسلطت الضوء على قضية اللاجئين والقضية الفلسطينية عموما.
في الانتفاضة الشعبية الأولى ١٩٨٧ (انتفاضة الحجارة) ما بعد الاختلال الإسرائيلي لكل الأراضي الفلسطينية وما قبل وجود السلطة الفلسطينية وقبل الانقسام والتي كانت شعبية وبدون سلاح وكانت تحت قيادة وطنية موحدة، استشهد حوالي ١٣٠٠ فلسطيني.
خلال هذه الانتفاضة عمت المظاهرات كثيرا من دول العالم وخصوصا بعد بث فيديو لجندي صهيوني وهو يقوم بكسر عظام يد طفل فلسطيني القى حجارة على الجيش، وآنذاك كان جنود الاحتلال المدججين بالسلاح يهربون أمام أطفال الحجارة، وحركت الانتفاضة دول العالم للبحث عن حل للقضية الفلسطينية وكان مؤتمر مدريد للسلام ١٩٩١ ثم اتفاق أوسلو 1993، وما تبعه من اتفاقيات، الذي أقام سلطة حكم ذاتي فلسطينية على أرض فلسطينية والتفاوض على قضايا الوضع النهائي وهي القدس واللاجئين والمستوطنات والمياه والحدود.
صحيح أن التفاوض كان على 22% من فلسطين الانتدابية، وصحيح أن التفاهم بين الطرفين لم يعمر طويلا حيث تعثر مسار التفاوض بعد مقتل إسحاق رابين في نوفمبر 1995 على يد اليمين الصهيوني وصعود اليمين الصهيوني ،ولأسباب أخرى خاصة بالفلسطينيين أنفسهم، إلا أنه في بداية السلطة كان عند الفلسطينيين مطار ومؤسسات سلطة حكم ذاتي تجسد الهوية والثقافة الوطنية وتلبي احتياجات المواطنين وجوازات سفر وحرية التنقل عبر المعابر ،كما تم عودة حوالي ربع مليون فلسطيني إلى أراضي السلطة وتحرير حوالي عشرة ألاف أسير فلسطيني على 3 دفعات بالإضاءة الى ما تم تحريرهم في صفقات سابقة لتبادل أسرى بين إسرائيل وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية الخ.
وفي الانتفاضة الثانية سبتمبر ٢٠٠٠ بعد قيام السلطة الفلسطينية وظهور حركتا حماس والجهاد خارج الإطار الوطني، التي بدأت شعبية ثم تم عسكرتها و(اسلمتها) بتدخل الفصائل وخصوصا حركة حماس وحركة الجهاد وغياب قيادة وطنية موحدة و استراتيجية مقاومة متفق عليها، ومع ذلك تحرك الرأي العام العالمي عندما شاهد جندي إسرائيلي يُطلق النار على الطفل محمد الدرة عند حاجز نتساريم ويرديه قتيلا في اليوم الثاني من الانتفاضة ، وسقط في الانتفاضة ما بين ٣ و٥ ألف شهيد فلسطيني وتم تدمير غالبية ما بنته السلطة من مؤسسات من وزارات ومطار وخصوصا في قطاع غزة.
في السابع والعشرين من مارس 2000 قام مقاتل من حركة حماس بتفجير في فندق بارك في إسرائيل في عيد الفصح اليهودي وعلى إثرها تم قام جيش الاحتلال بعملية (السور الواقي) حيث اقتحم الضفة الغربية وحاصر الرئيس أبو عمار في مقر إقامته في رام الله ثم اغتياله لاحقا عام 2004.
بعد عامين من الانتفاضة تم تحريك عملية التفاوض مرة اخرى من خلال طرح المبادرة العربية للسلام وخطة خارطة الطريق، وكان هدف هذا الحراك العربي والدولي إجهاض الانتفاضة وتسكين الرأي العام العربي والدولي.، ثم شاركت حركة حماس في الانتخابات التشريعية 2006، التي كانت ترفضها وتخونها سابقا. وفي هذه الانتخابات فازت حركة حماس وشكلت حكومة لسلطة أوسلو برئاسة إسماعيل هنية، دون أن تلتزم بمرجعية السلطة وبمنظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني، ثم كان الانقلاب وسيطرة حماس على قطاع غزة حيث دخلت القضية الوطنية في متاهات جديدة.
مع (طوفان الأقصى) وحرب الإبادة الحالية التي تجري خارج سياق حرب التحرر الشعبية وخارج السياق الوطني عموما وفي ظل الانقسام ووجود سلطتين وتصدُر الفصائل المسلحة وخصوصا حركة حماس والجهاد الإسلامي للمشهد وربط المقاومة بأجندة خارجية وخصوصا إيران ومحور وحدة الساحات مما حولها إلى ما يشبه حرب نظامية ببن جيشين ومعسكرين: جيش الاحتلال المدعوم أمريكياً من جهة وكتائب القسام وسرايا القدس ومحور المقاومة الشيعي من جهة أخرى… في هذه الحرب ،التي غاب عنها الشغب إلا كضحايا ، فقد الشعب الفلسطيني حوالي ربع مليون (٢٥٠٠٠٠) ما بين قتيل وجريح ومفقود وأسير ومعاق وأغلبهم من الأطفال والنساء بالإضافة الى الجوع والدمار الشامل للقطاع، وما يجري في الضفة والقدس وهو لا يقل خطورة عما يجري في قطاع غزة، كل ذلك خلال أقل من عامين، والتفاوض مع حماس يجري على تحرير حوالي 45 مخطوفا إسرائيليا ما بين قتيل وميت على دفعات مقابل هدنة لأشهر وإعادة انتشار جيش الاحتلال إلى مواقعه قبل خرق الهدنة الماضية ودخول مساعدات والأهم بالنسبة لحركة حماس هو بقائها في السلطة فيما سيتبقى في قطاع غزة من أرض وشعب.
يمكن رصد ثلاث متغيرات في هذه المقارنة قد تكون سببا في زيادة إجرام العدو وتراجع الإنجازات الميدانية للشعب الفلسطيني:
- السبب الرئيس لهذا الارتفاع في عدد الضحايا يعود بالتأكيد لزيادة إجرام العدو وانكشاف حقيقته الإرهابية وللتحول في العقيدة القتالية عنده بعد وصول اليمين اليهودي الصهيوني للحكم وحتى تحول كل التجمع الإسرائيلي نحو اليمين.
- إلا أنه يعود أيضاً في جزء منه لوجود خلل في إدارة الفلسطينيين للانتفاضة والحرب، في هذا السياق يحضر الانقسام وغياب استراتيجية وطنية موحدة في إدارة عملية التسوية السياسية وفي إدارة الانتفاضة والحرب.
- الانتفاضة الأولى كانت شعبية دون سلاح وقبل ظهور حماس والجهاد وحتى قبل قيام السلطة الفلسطينية، وفي الانتفاضة الثانية تراجع دور الجماهير لحساب الأحزاب وخصوصا المسلحة وتم عسكرة الانتفاضة كما جرت بعد قيام السلطة والخلاف حولها، أما في الحالة الأخيرة فقد احتذت طابع الحرب النظامية بين جيشين وغاب الشعب عن المشهد إلا كضحايا في قطاع غزة ومتفرجين في خارج القطاع.
- التحولات والمتغيرات في العالم من حولنا، عربيا وإقليميا ودوليا، لم تكن لصالح الشعب الفلسطيني، وإن كنا ضيعنا فرصا في توظيف هذه المتغيرات لصالحنا.
والخلاصة أن القضية الفلسطينية وبالرغم من مأزق عملية التسوية السياسية ومأزق المقاومة المسلحة وما يمارسه العدو من إجرام بحق شعبنا إلا أنها ما زالت قضية حاضرة في ضمير الأمة العربية كما هي خاضره دوليا ، وكل أشكال الفشل والتعثر في كيفية تدبير الفلسطينيين للشأن السياسي لا تعود لخلل في مبدأ وشرعية مقاومة الاحتلال بل في طريقة ممارسة المقاومة دون استراتيجية وطنية محل توافق الجميع، نفس الأمر في عملية البحث عن تسوية سياسية مؤقتة يمكن أن تؤدي لتثبيت الشعب على أرضه وإقامة سلطة فلسطينية ولو لحكم ذاتي، بل كانت المشكلة أيضا في غياب التوافق الوطني على عملية التسوية السياسية، هذا بالإضافة الى التدخلات الخارجية تارة باسم العروبة والبعد القومي للقضية وتارة أخرى باسم الإسلام والبعد الإسلامي لفلسطين والقدس، هذا ناهيك عن أوجه الفساد في الطبقة السياسية.
Ibrahemibrach1@gmail.com