جرائم الاحتلال الصهيوني ومستوطنيه في كل ربوع فلسطين لم تترك مجالاً أمام الفلسطينيين إلا اللجوء لكل أشكال المقاومة المتاحة من سلمية وعسكرية. والمقاومة حق تقره كل الشرائع الدينية والوضعية للشعوب الخاضعة للاحتلال، والاحتلال الصهيوني لفلسطين هو أبشع أشكال الاحتلال لأنه احتلال استيطاني إجلائي عنصري، في هذا السياق وجدت العمليات الفدائية التي قام بها مناضلون بشكل منفرد خلال الأشهر الأخيرة كل تأييد و ترحاب من عموم الشعب الفلسطيني، وكان ما يثير الإعجاب أنها عمليات من شباب غيورين على الوطن وغير منتمين للتنظيمات والأحزاب المعروفة ولم يكن العدو يعرف أسماء منفذي العمليات إلا بعد استشهادهم أو اعتقالهم.
كل فعل مقاوم للاحتلال مقاومة مشروعة لأنها تندرج في سياق حق الدفاع عن النفس وهو حق فردي وجماعي ولا يجوز مطالبة كل فرد يواجه سلوك إسرائيلي يتعلق بسرقة ارضه أو هدم بيته أو قتل أحد افراد اسرته أو يثور ردا لامتهان كرامته الشخصية والوطنية أو ردا على تدنيس مقدساته الدينية الخ، لا يمكن الطلب منه الالتزام بقوانين حرب الشعب أو الالتزام بنهج وتعليمات القيادة السياسية أو انتظار اتفاق الأحزاب على استراتيجية وطنية للمقاومة، ولكن حتى تنتج أعمال المقاومة مفاعيل سياسية لصالح القضية الوطنية يُستَحسن أن تكون في سياق استراتيجية وطنية شاملة وفي سياق وحدة ساحات المقاومة.
للمقاومة أو حروب التحرير الشعبية قوانينها وأساليبها ومواقيتها التي تضمن نجاعة الفعل المقاوَم وحتى لا يتفرد العدو بكل جماعة مقاومة وبكل مدينة ومخيم وحتى لا تخرج أعمال المقاومة عن هدفها الوطني أو يوظفها العدو لخدمة أهدافه، وهناك في تجارب الشعوب راهنا ًوفي الماضي كثير من الشواهد على بطولات فردية أو لمجموعات مناضلة تمكن العدو من محاصرتها والقضاء عليها.
صحيح أن كل أعمال المقاومة فردية كانت أو جماعية، وبغض النظر عن نتائجها، تبلّغ رسالة بأن الشعب يرفض الاحتلال ولن يسكت على ممارساته، إلا أن عقلنة العمل المقاوم ووجود وحدة وطنية تنسق أعمال المقاومة سيقلل من الخسائر ويسمح بمخرجات أكثر فاعلية للمقاومة، وخصوصا أن جيش العدو يملك تفوق عسكري هائل وقدرات تكنولوجية متطورة.
كانت الانتفاضة الأولى 1987 (انتفاضة الحجارة) أرقى فعل مقاوم داخل الأراضي المحتلة بعد انتفاضة يوم الأرض في الخط الأخضر 1976، حيث استنهضت الحالة الوطنية في كل ربوع الوطن بعد سنوات من الركود ومحاصرة الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير في الخارج، والتف حولها كل أحرار العالم وأحرجت العدو الصهيوني وحلفاءه وحركت الرأي العام العالمي و دفعته للبحث عن تسوية سياسية للقضية الفلسطينية، ونفس الأمر كان مع الانتفاضة الثانية 2000 قبل أن يتم عسكرتها نتيجة تدخل أصحاب الأجندة الخارجية ثم الإجهاض عليها بالانقسام.
ردا على محاولة تهجير سكان الشيخ جراح انتشرت المواجهات يوم العاشر من مايو 2021 في الضفة والقدس وداخل الخط الأخضر وحتى عند فلسطينيي الخارج وكانت الأمور متجهة لانتفاضة فلسطينية ثالثة إلا أن اندلاع المواجهات المسلحة على جبهة غزة قطع الطريق على الانتفاضة الشعبية وأصبحت الحرب بين غزة وإسرائيل الموضوع الشاغل للكل، و تدخلت مصر والولايات المتحدة والأمم المتحدة وقطر للوساطة، وتم توقيع اتفاق هدنة بين الطرفين وكأن المشكلة أصلا هي صواريخ حماس وليس الاختلال بشكل عام والوضع في القدس على وضع الخصوص، وعادت الأمور بعد الحرب أسوأ مما كانت سواء في القدس أو قطاع غزة.
لم يكن خطأ حركة حماس ومن سار في ركابها من فصائل المقاومة أنهم يقاومون الاحتلال عسكرياً فقط بل أيضا في حصرهم ميدان المقاومة في قطاع غزة المحاصر والفقير والذي خرج منه جيش الاحتلال عام 2005، ومقارعة العدو عسكرياً بالصواريخ وهو المجال الذي يتفوق فيه العدو على كل دول المنطقة بينما توقفت عملياتها العسكرية في الضفة وبقية فلسطين حيث يجب ان تكون هناك، وكان نتيجة أربعة (حروب) خراب ودمار لقطاع غزة وترك الضفة والقدس نهباً لقطعان المستوطنين. وفي ظني أن من فكر وخطط لحرب الصواريخ والأنفاق يفتقر لبديهيات حروب التحرير الشعبية بل لأي خبرة عسكرية، هذا إن لم يكن قرار الحرب ونهج إطلاق الصواريخ والتخندق في الأنفاق قراراً خارجياً لا علاقة له بتحرير فلسطين.
لقد اثبتت الاحداث أن تأثير الانتفاضات والمقاومة السلمية وكل حجر يرميه مواطن في الضفة على جندي أو مستوطن أو طعنة سكين من شاب أو فتاة أو عملية دعس أو رصاص بندقية على حاجز للجيش أو على المستوطنين… أهم معنوياً وسياسياً من الصواريخ التي تنطلق من غزة على إسرائيل، الأفعال الأولى تعبر عن إرادة وطنية خالصة بينما الصواريخ المنطلقة من غزة وكل حروب غزة أدت لتعزيز الانقسام وفصل غزة كما كانت خدمة لأجندة خارجية، كما تأكد أن خطر الانقسام السياسي والجغرافي وتباين البرامج ما بين برنامج مقاومة وبرنامج سلام وتسوية سياسية على المقاومة بكل أشكالها لا يقل عن خطر الاحتلال عليها.
واليوم ونحن نسمع عن (عرين الأسود) وعملياتها البطولية التي تذكِرنا بالفدائيين الأوائل الذين استنهضوا الهوية الوطنية وفجروا ثورة لم تتوقف حتى اليوم، ومع الحملة العسكرية الإسرائيلية على نابلس ومحاصرة المناضلين بعد أسبوعين من حصار المدينة نتساءل سؤال المتخوف على الجماعة وعلى أرواح شبابها الميامين: هل إن المرحلة مواتية للإعلان رسمياً وعبر مؤتمر صحفي وأمام الكاميرات عن انطلاق هذه الجماعة المسلحة؟ ألم يكن خطأ من الجماعة أن تعلن عن نفسها وتكشف عناصرها ومكان تمركزها؟
كانت جماعة (عرين الأسود) بمثابة شرارة تهيئ لانتفاضة شعبية شاملة إلا أن البعض تسرع وضخَّم من إمكانيات هذه الجماعة ودورها في هذه المرحلة كما سارعت بعض الفصائل لركوب موجتها والزعم أنها مشكلة من مقاتلين من فصائل المقاومة، كما أن العدو الصهيوني بقياداته الرسمية وإعلامه ركز كثيرا على هذه الجماعة وخطرها وكأنه كان يستدرج الجماعة لمواجهة توظفها حكومته المأرومة في حملتها الانتخابية وفي نفس الوقت تبعد الأنظار عما يجري في القدس والمسجد الأقصى ولقطع الطريق على المقاومة الشعبية وعلى انتفاضة شغبيه شاملة كانت تتخوف منها إسرائيل.
جيش الاحتلال قد يتبجح بتسجيل نقطة لصالحه بقتله عدد من قادة وعناصر عرين الأسود ولكن بطولات الفدائيين الجدد في مخيم جنين ونابلس وشعفاط وكل مناطق الضفة بلِّغت رسالة للعالم ولإسرائيل خصوصا أن الشعب الفلسطيني لم يُسقط راية الثورة لا في غزة ولا في الضفة وأنه يستحيل التعايش مع دولة الكيان ليس لأن 3 مليون فلسطيني يكرهون الإسرائيليين كما قال رئيس وزراء العدو الصهيوني يائير لبيد بل لأن 14 مليون فلسطيني وغالبية شعوب الأمتين العربية والإسلامية يكرهونهم لأن إسرائيل دولة احتلال عنصرية تتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني ولكل قرارات الشرعية الدولية.