ظاهرة تكررت في أكثر من بلد وفي أزمان ممتدة وأصبحت بمثابة القانون السياسي /الاجتماعي ،نعم إنه قانون غير مدون ولكن العرف أو الممارسة المتكررة المُسلم بها ولو ضمنيا تصبح أقوى من القانون المدون ،وربما أصبح مطلوب من علماء الاجتماع السياسي شحذ أقلامهم لصياغة نظريات مُفسرة لهذه الظاهرة . الظاهرة هي تحول حركات ثورية وجهادية تأسست لمواجهة عدو خارجي بالسلاح ورفعت شعارات وأهداف كبيرة قد تكون صحيحة نظريا ولكنها غير عقلانية ومستحيلة عمليا لعدم تناسبها مع إمكانيات هذه الحركات ومع المحددات الدولية والإقليمية المحيطة… ،تحول هذه الحركات لعصابات مسلحة أو لأدوات لحرب أهلية ، وفي كثير من الحالات تتحالف بعض هذه القوى المتنافسه في نفس البلد مع العدو القومي الذي وُجدت لمواجهته ،أو يغذي العدو الحرب الأهلية بطريقة مستترة.
من نيكاراجوا في أمريكا الاتينية إلى اللاوس وتايلند في أسيا ،إلى أكثر من حالة في إفريقيا ،وإخيرا في أفغانستان والجزاير والعراق ولبنان وفلسطين ،تحول الكفاح المسلح أو الجهاد من نضال للدفاع عن الوطن أو عن قيم أيديلوجية عليا أو في سبيل الله ،إلى صراع من أجل السلطة ،ولتصبح حال البلد – سياسيا وأقتصاديا واجتماعيا وامنيا – مع وجود هذه الجماعات أكثر سوءا مما كانت عليه قبل أن يتنطعوا لقيادة الأمة ،بل يتحسر المواطنون على الأيام الخوالي قبل أن يبتلوا بهذه الحركات . لو بحثنا في أسباب أيلولة الأمور لإرتكاسة وطنية فالسبب لا يكمن في شرعية الأهداف المرفوع فمطالب الاستقلال والحرية ومقاومة الاحتلال هي مطالب مشروعة .السبب يكمن في غياب استراتيجية وطنية وقيادة وحدة وطنية تحت رايتها يكون فعل المقاومة ،دائما موازين القوى العسكرية تميل لصالح الاحتلال ،لأن الاستعمار هو دوما احتلال دولة قوية لدولة ضعيفة ،وحتى يستطيع الشعب الخاضع للاحتلال فرض إرادته على العدو عليه توحيد كل جهوده وحشد كل إمكانياته ،وفوق كل ذلك كسب دعم وتاييد العالم الخارجي ،المقاومة الفصائلية أو المجزأة لا تستطيع الانتصار على العدو ،والمقاومة المجزاة والمتناحرة مع بعضها البعض لا تسنطيع حشد تأييد شعبي ورسمي محلي ودولي.غياب استراتيجية وقيادة وطنية هو ما يسمح للعدو بإختراق الجماعات المسلحة ويسمح للأطراف الخارجية باختراق هذه الجماعات وتوظيفها لخدمة أجندتها الخارجية واستقطابها للعمل ضمن مشاريع سياسية غير وطنية ،ولأن الإنغلاق الفكري، إن لم يكن الجهل السياسي، لا يسمح لهذه الجماعات أن تعترف بأخطائها وبعبثية العمل المسلح في ظروف غير مواتية ولأنها أصبحت أسيرة الارتزاق الثوري والجهادي وأسيرة السلاح المنتشر بيد عناصرها وما انتج من ثقافة ،أيضا أسيرة الجهات الممولة ،فإنها تبحث عن عدو جديد يبرر أستمرار وجودها كجماعات مسلحة، ويكون العدو في هذه الحالة داخليا أي الفصائل المسلحة المنافسة أو النظام السياسي الذي تشتغل داخله.
لا مجال هنا لمقاربة هذه الظاهرة عالميا بشكل مفصل ،بل نريد التركيز على حالة عيانية نعيشها في فلسطين ،وهي اقتتال الجماعات المسلحة –وخصوصا حركة حماس وحركة فتح – والتي كان من المفترض أن تكون حركات مقاومة للعدو ،وانزلاق هذه الجماعات لوضع الحرب الأهلية وهي حالة لم يعد مجال لإنكارها وخصوصا بعد الإنقلاب العسكري لحركة حماس في قطاع غزة .لا شك أن حركة حماس أرتكبت جرما ليس فقط بحق النظام السياسي بل بحق أهلنا في غزة عندما سهلت المأمورية للعدو لحصار وتجويع الشعب واعطت المبرر للدول المانحة والدول العربية لوقف مساعداتها ،فيما حركة حماس لا تملك الإمكانيات لتسيير أمور الناس هناك ولا تملك أفق سياسي يقنع الجمهور بحل قريب ،إلا أن كل ذلك لا يبرر لمجموعات فلسطينية بالقيام بعمليات مسلحة ضد عناصر ومقرات حركة حماس والقوة التنفيذية ،وخصوصا أن من يقف وراء هذه المجموعات المسلحة لم يستطيعوا وهم في السلطة من الحيلولة دون سقوط غزة بيد حركة حماس واوقفوا قبل ذلك استراتيجية المقاومة في مواجهة إسرائيل،ولأن هذه العمليات ستزيد من معاناة الناس دون أن تقصر من عمر حكم حركة حماس لأن بقاء أو عدم بقاء حكم حركة حماس رهين بحسابات تتعدى النطاق الوطني .في نفس الوقت لا يجوز لحركة حماس التي ما وُجِدت إلا لقتال العدو كما تزعم ،أن توجه بنادقها إلى صدور المواطنين العُزل في القطاع وتقتحم المنازل وتعتقل وتعذب كل من يخالفها الرأي ،والأخطر من ذلك لا يجوز لحركة حماس أن تستجدي الهدنة مع العدو فيما هي تشرع سلاحها بوجه أبناء الوطن،العنف غير المبرر لحركة حماس ضد المواطنين في القطاع يولد أحقادا ورغبة بالثأر ويعمق الفجوة بين الحركة والشعب مما يجعل أي مصالحة بين السياسين عديمة الجدوى .
العمليات المسلحة التي نسمع عنها والتي تمارسها مجموعات تدعي أنها تابعة للأجهزة الأمنية أو لحركة فتح ،يجب أن تُدان بشدة ومن أعلى المستويات ،من الرئيس أبو مازن ومن الحكومة الشرعية في رام الله ومن كل غيور على المصلحة الوطنية ،لأن هذه العمليات ستستدعي ردود فعل من حركة حماس في الضفة الغربية مما سيعيق من عمل الحكومة ويظهرها كحكومة فاشلة في حفظ الأمن ولا ندري إن كان من اهداف الذين يقفوا وراء العمليات المسلحة في غزة إسقاط الحكومة في الضفة ،أيضا ما دامت حركة حماس قررت البحث عن هدنة طويلة المدى مع إسرائيل فعليها أن تتحول في قطاع غزة من حركة مقاومة إلى حركة سياسية تؤمن بالتعددية وبالعمل السلمي ،وفي الضفة الغربية، عليها التخلي عن سلاحها لأن السلطة هناك تطبق ما تسعى حركة حماس لتطبيقه وهي التهدئة والبحث عن حلول سلمية ،استمرار تخزين وحمل السلاح في الضفة الغربية مع التوجه لهدنة مع إسرائيل يعني أنه سلاح موجهة ضد السلطة والحكومة الفلسطينية أو بصيغة أخرى إنه سلاح يهدف للسيطرة على السلطة.
الحرب الأهلية ككرة الثلج تبدا صغيرة ثم تتعاضم بالتدريج ضمن تغذية ذاتية للعنف بفعل التحريض المتبادل والرغبة بالثأر ، وتغذية خارجية من العدو المستفيد من ارتداد سلاح المقاومة داخليا لسلاح جماعات متصارعة على السلطة ،والعدو لن يألو جهدا في سكب الزيت على النار وما تشهده لبنان من تفجيرات مجهولة المصدر رسميا يجب أن يُستفاد منه فلسطينيا ،فالجيش الإسرائيلي ليس فقط على الأبواب بل داخل البيت ،وجيش العملاء منتشر في كل مكان ،والفقر والعوز والإحباط تربة صالحة لتوليد من هم مستعدون لتنفيذ أوامر العدو بأقل ثمن وخصوصا أن السلاح والمتفجرات أرخص من الخبز في المناطق الفلسطينية .إن كل عمل مسلح تقوم به جماعة فلسطينية ضد جماعة أخرى هو فعل إرهابي ومجرم ولا علاقة له بالمقاومة .
28-9-2007