بالرغم من مرور ستة عشر عاماً على الاغتيال الجسدي للقائد أبو عمار، فإن الأوساط الرسمية الفلسطينية ولجان التحقيق التي تشكلت لم تعلن رسمياً عن القتلة ولا عن سبب الوفاة، فهل فعلاً أن القاتل وسبب الوفاة غير معروفين؟ أم أن توافقات دولية ومحلية ارتأت أن من المصلحة التكتم على الأمر؟.
لا شك أن أطباء مستشفى بيرسي العسكري الفرنسي حيث توفي أبو عمار في الحادي عشر من نوفمبر 2004 توصلوا إلى أن سبب وفاة الرئيس التسمم بمادة البولونيوم المشع، وهي مادة لا يمكن تصنيعها إلا من طرف دولة ذات إمكانيات ووحدها تعرف تكويناتها وكيفية إبطال مفعولها، ولكنهم تكتموا على الأمر.
الذي جرى أن تعتيماً وحصاراَ تم داخل وخارج المستشفى حيث كان يقيم الرئيس، ورفع الأطباء تقريرهم للرئاسة الفرنسية التي بدورها أجرت اتصالات مع الولايات المتحدة ومصر والأردن وبعض المسئولين في السلطة ووضعتهم في صورة الأمر، أبو عمار مات مسموماً فما العمل؟ هل يتم الإعلان أن إسرائيل سممت أبو عمار وليتحمل كل مسؤوليته؟ أم يتم التمويه على الأمر ويُترك غامضاً؟ نعتقد أن الجميع رأوا أن البوح بالحقيقة قد يؤدي لإحراج السلطة الفلسطينية ودول عربية أكثر مما يُحرج إسرائيل، فماذا تستطيع سلطة فلسطينية مأزومة داخلياً وخارجياً أن تعمل؟ هل ستعلن الحرب على إسرائيل؟ هل ستوقف المفاوضات احتجاجاً على قتل رئيسها لأنها لا يمكن أن تتفاوض مع قتلة رئيس وقائد الشعب الفلسطيني؟ هل ستقوم بتحقيق جدي وتطبق القاعدة القانونية والجنائية التي تقول بالبحث عن المستفيد عند وقوع أية جريمة؟ وإسرائيل المستفيد الأول وإن لم تكن الوحيدة المستفيدة من موته!.
سبب الوفاة معروف والقتلة معروفون، ولكن هناك تواطؤ على الصمت، لأن القتلة (المستفيدون) ليس فقط من دسم السم لقتل الرئيس جسدياً، ولكنهم كل مَن عمل على قتله وتصفيته سياسياً، فالتصفية السياسية سبقت التصفية الجسدية وخلقت الأجواء المناسبة لتمر جريمة الاغتيال الجسدي بهدوء مريب.
إسرائيل هي العقل المدبر لقتل الرئيس أبو عمار ولم يُخف القادة الإسرائيليون رغبتهم في تصفية أبو عمار وقالها شارون علناً وأقواله موثقة، كما قد حاولوا اغتياله عدة مرات قبل ذلك في بيروت وفي تونس، ومَن يقتل أبو جهاد وأبو يوسف النجار والكمالين والشيخ ياسين وأبو على مصطفي وعشرات القادة قبلهم وبعدهم، وآلاف المدنيين الفلسطينيين، لن يتورع عن قتل قائد اتهموه بأنه إرهابي.
المتآمرون على تصفية أبو عمار والمستفيدون من غيابه عن المشهد السياسي كثيرون وليست إسرائيل وحدها. القادة العرب الذين صمتوا على حصاره وبعضهم لم يكلف نفسه حتى الاتصال به بل حالوا بينه وبين مخاطبة شعبه والعالم في قمتهم في بيروت وهو محاصر في المقاطعة كانوا متواطئين، السياسيون والكتاب الذين شوهوا سيرته واتهموه بأسوأ الصفات كانوا متواطئين، مسئولون ومراكز قوى محلية شوهوا صورته وحملوه مسؤولية الخراب والدمار الذي لحق بالشعب الفلسطيني أيضا متواطئون، لقد توزع دم الشهيد بين القبائل.
رحل أبو عمار الذي فجر ثورة واستنهض شعباً وهوية وثبَّت الحضور السياسي الفلسطيني على الخارطة الدولية. لم يكن ملاكاً والمسيرة التي قادها لم توصلنا للاستقلال، ولكن من الظلم أن نحمله مسؤولية مرحلة كاملة لم يكن الفاعل الوحيد فيها، بل لم يكن الفلسطينيون جميعاً أصحاب القرار فيما يخص قضيتهم الوطنية.
كانت له أخطاء وعيوب وتزايدت هذه الأخطاء بعد الدخول إلى ما أُتيح من الوطن المحتل في سياق مشروع تسوية سياسية غير منصفة، وفي السلطة طغت أخطاء أبو عمار رجل الدولة والسلطة على إيجابيات أبو عمار الفدائي ورجل الثورة. للأسف فإن مَن كانوا أكثر استفادة من عرفات ومن المرحلة العرفاتية هم الذين ساهموا في إفساد سلطة أبو عمار، أولئك الذين كانوا يكيلون له المديح ويغرفون من جيوبه في النهار، ويكيدون ويدبرون الدسائس له بالليل، ويروّجون أن أبو عمار هو سبب الفساد وسبب الفوضى.
غريب أمر هذا الرجل الذي أبى أن يترجل إلا شهيداً …سقط شهيد مبادئ لم يتنازل عنها مع أن العالم تغير، شهيد حقوق وطنية رفض المساومة عليها، ومع أنه ناور وتكتك وفاوض ولامس حتى الخطوط الحمر للثوابت الوطنية من أجل فلسطين، إلا أن مكر العدو وجبروته وخذلان الأقربين كانوا له بالمرصاد، لم يكن طالب جاه أو ثروة بل كان ناسكاً متقشفاً، جمع من حوله أعداء بقدر ما كان له أصدقاء، وأعداؤه كانوا أعداء فلسطين.
قالوا إن أبو عمار عائق أمام السلام !،وقالوا إن أبو عمار عائق أمام إصلاح البيت الفلسطيني وسبب كل فساد وخراب …! وها قد مر 16 عام على وفاته، فهل أصبح السلام أقرب منالاً؟ وهل أصبح البيت الفلسطيني أكثر صلاحاً وأمناً ؟!
لقد جسد الزعيم الراحل في شخصيته كل تشابكات وتعقيدات وعُقد القضية والشعب الفلسطيني. لم يكن ملاكاً ولكنه لم يحكم شعباً من الملائكة، ولم يتعامل دولياً مع مدن فاضلة يحكمها ملائكة… فرحم الله الختيار.