د/ إبراهيم أبراش
في خفايا العلاقات المصرية الفلسطينية
لم يعد الحديث الدبلوماسي الرسمي الذي يؤكد على عمق العلاقات الفلسطينية المصرية قادر على إخفاء خلافات عميقة تراكمت خلال السنتين الماضيتين بين القيادتين المصرية والفلسطينية ، وهي خلافات تجاوزت الخلافات السياسية بين القيادات لتصيب بشظاياها العلاقات الإنسانية بين الشعبين المصري والفلسطيني ونظرة كل منهما للآخر ، ولكن الأخطر من كل ذلك أنها تُنذر وتخفي توجهات وممارسات مصرية فيما يتعلق برؤيتها للقضية الفلسطينية سواء تعلق الأمر بملف المصالحة ومفهومها وأولوياتها ، أو التسوية السياسية والعلاقة مع إسرائيل ، أو نظرتها لحركة حماس و لقطاع غزة وكيفية إدارته ، وهي تخوفات يغذيها التقارب بين القيادة المصرية والإدارة الامريكية الجديدة ذات التوجهات الواضحة المعادية للشعب الفلسطيني والمنقلبة على خيار حل الدولتين بصيغته السابقة ، أيضا الحديث عن الحل الإقليمي وما صاحبه من تحركات مصرية أردنية إسرائيلية .
في بداية عهد الرئيس السيسي اتسمت العلاقة مع الجانب الفلسطيني بالتقارب والتفهم المشترك بين القيادة المصرية والرئيس أبو مازن ، في مقابل توتر العلاقة مع حركة حماس الحاكمة في قطاع غزة ، إلا أن شهر العسل بين الطرفين لم يستمر طويلا لأسباب متعددة منها ما هو متعلق بصعوبة الأوضاع الأمنية والاقتصادية المصرية ، وتوجهات مصرية جديدة للتعامل مع القضية الفلسطينية في سياق تطلعها لاستعادة دورها العربي والإقليمي وإعادة تقعيد أو صياغة علاقتها بإسرائيل لاعتبارات أمنية ، ومنها ما هو متعلق بيأس مصر من إنجاز مصالحة فلسطينية تنهي حالة الانقسام وتضع حدا لسلطة حركة حماس الإخوانية في مصر وما يُثار من شكوك حول علاقة حماس بالحالة الأمنية في شمال سيناء .
في هذا السياق ظهر ، أو عاد للظهور ، لاعب سياسي جديد وهو محمد دحلان ،لتتعقد المشكلة أكثر وتتعدد أطرافها وتصبح علاقة مصر مع الجانب الفلسطيني ثلاثية الأبعاد – حماس والرئيس أبو مازن ومحمد دحلان – ، جاءت مبادرة الرباعية العربية–مصر والسعودية والإمارات والأردن –للمصالحة الفتحاوية تمهيدا للمصالحة الفلسطينية الشاملة كما يقول أصحابها والتي تم الكشف عنها بداية سبتمبر 2016 لتُظهِر أو تبحث عن دور للاعب جديد ربما كبديل عن اللاعبين الآخرين وخصوصا فيما يتعلق بالتعامل مع قطاع غزة . هذه المبادرة وترت العلاقة بين الرئيس أبو مازن وأصحاب المبادرة وخصوصا مصر وكَثُرت الأقاويل عن تدهور العلاقة بين الرئيس أبو مازن ومصر ، بل وصل الأمر لدرجة القول بأن القيادة المصرية تدعم محمد دحلان ليكون خليفة للرئيس أبو مازن ! .
السياق والتوقيت اللذان جاءت فيهما المبادرة العربية والموقف المصري المتحفظ من الرئيس أبو مازن وتقرب الدولة المصرية من محمد دحلان أثارا التخوفات إن كانت الدولة المصرية أو بعض أجهزتها المخابراتية تريد بالفعل إنهاء حقبة الرئيس أبو مازن وإعادة تشكيل النظام السياسي بما يخدم الاستراتيجية الجديدة للنظام المصري في المنطقة ؟.
كان من الواضح أن مصر تدعم دحلان بقوة وتريد عودته ليكون فاعلا رئيسا في الاستراتيجية المصرية الجديدة تجاه القضية الفلسطينية والمنطقة . كانت مصر تعتقد وتراهن أنه يمكنها ومن خلال التنسيق من دول عربية وإقليمية الضغط على الأطراف الفلسطينية الفاعلة وخصوصا الرئاسة الفلسطينية لفرض رؤيتها ولو في نطاق تغيير الأوضاع في قطاع غزة دون أن تصل الأمور للانقلاب على الرئيس أبو مازن أو خلق كيان سياسي بديلا عن منظمة التحرير الفلسطينية .
تجلى هذا التوتر من خلال تراجع العلاقة بين القيادة المصرية والسلطة الفلسطينية مقابل تزايد الاهتمام المصري بقطاع غزة وإعادة مصر لنظرتها لحركة حماس ودورها المستقبلي ويظهر ذلك من خلال :
- نشاط ملحوظ لمحمد دحلان وجماعته في قطاع غزة ، إشراف مسئولين في حماس على مشاريع مساعدات من محمد دحلان للمحتاجين في القطاع ، زيارة اعضاء تشريعي من حركة حماس لمحمد دحلان في الإمارات ، وتصريحات لقادة حمساويين تمتدح محمد دحلان وتنتقد الإجراءات التي اتخذها الرئيس أبو مازن بحقه .
- وفي مصر سمحت الدولة بحراك ملحوظ لمحمد دحلان وجماعته داخل مصر من خلال وقوفه وتمويله لعدة مؤتمرات لنخب فلسطينية من قطاع غزة سياسية واقتصادية واجتماعية جرت بدءا من السادس عشر من أكتوبر 2016 في عين السخنة على ساحل خليج السويس وتحت إشراف مركز الأبحاث القومي لدراسات الشرق الأوسط المحسوب على جهات أمنية سيادية .
- تسهيلات ملحوظة على معبر رفح حيث تم فتحه عدة مرات بعد هذه اللقاءات خلاف ما كان سابقا حيث كان يتم غلقه لعدة أشهر وكانت مصر ترهن فتحه بوجود حرس الرئاسة الفلسطينية ، مع وعود مصرية بمزيد من التسهيلات بل وصل الأمر للحديث عن منطقة تجارة حرة وزيارة وفد مصري لقطاع غزة ,
- عودة الاتصالات بين حركة حماس والقيادة المصرية من خلال موسى أبو مرزوق وقيادات حمساوية أخرى زارت مصر مؤخرا وبحث في ملفات متعددة وعلى رأسها الملف الأمني . أيضا بدأنا نسمع خطابا متبادلا مرنا لا يخلو من نغمة تصالحية بين حماس والدولة المصرية .
- تراجع الاهتمام المصري بملف المصالحة الفلسطينية .
ومع أننا لا نعتقد أن مصر في هذه المرحلة ستقطع الوصل مع الرئيس ومنظمة التحرير أو تشارك في خلق كيانية سياسية جديدة منافسة أو بديلة لمنظمة التحرير ولسلطة الرئيس أبو مازن ، ولكن قد تغير من طريقة تعاملها مع السلطة ومع قطاع غزة تحديدا ، وقد تكون جزءا من رؤية أمريكية جديدة للتسوية .
ارتباطا بما ورد أعلاه فإن مصر ستعيد صياغة موقفها تجاه القضية الفلسطينية في المرحلة القادمة وسيكون مدخلها أو تبريرها لذلك تخفيف الحصار عن القطاع واعتبارات تتعلق بالبعد الأمني وضمان حماية جبهتها الجنوبية ، بالإضافة إلى الجانب الاقتصادي حيث ترى مصر في التجارة مع قطاع غزة موردا ماليا مهما سيساعد على تنشيط الاقتصاد المصري المأزوم وخصوصا في سيناء.
ما آلت إليه العلاقة بين الطرفين والمعاملة السيئة التي يتعرض لها الفلسطينيون على معبر رفح وفي المنافذ المصرية الأخرى يجعل الحديث عن الدوافع الإنسانية غير مقنع ، حتى الحديث عن إدخال مواد وسلع للقطاع يثير الشكوك والتخوفات ، وفي هذا السياق الاقتصادي نرى من المهم التحذير من ربط اقتصاد قطاع غزة بالاقتصاد المصري في ظل غياب سلطة وحكومة فلسطينية تراقب الحركة الاقتصادية وتحمي الاقتصاد الفلسطيني والمستهلك الفلسطيني ، فمن خلال ما جرى خلال الفترة السابقة فإن ما يدخل من مصر للقطاع من مواد لا يتناسب مع الاحتياجات الحقيقية والضرورية لأهالي قطاع غزة ولا تساعد على استنهاض الاقتصاد الفلسطيني ، فغالبية البضائع استهلاكية ومن النوعية الرديئة ولا تخضع لأية مراقبة مهنية أو صحية ، والمستفيدون من هذه التجارة هم كبار التجار من الجهة المصرية المرتبطين بالمؤسسة العسكرية ، ومن الجانب الفلسطيني كبار التجار المرتبطين بحركة حماس . ما نخشاه في حالة فك ارتباط اقتصاد غزة بالسلطة الفلسطينية وبالتالي بالضفة الغربية وإسرائيل أن يصبح الوضع الاقتصادي في قطاع غزة شبيه وامتداد للوضع الاقتصادي في مصر بل في رفح المصرية .
أيضا فإن هذا التوجه الذي يتم تبريره باعتبارات إنسانية واقتصادية لا يخلو من خلفيات سياسية . ذلك أن ارتباط اقتصاد قطاع غزة بإسرائيل يستند على مقتضيات بروتوكول باريس الاقتصادي بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل وهذا البروتوكول والذي تم توقيعه يوم 29/4/1994 جزء من اتفاقية أوسلو التي تتعامل مع قطاع غزة والضفة كوحدة سياسية وجغرافية واقتصادية واحدة ، وعليه فإن ربط اقتصاد القطاع بمصر معناه الانفكاك من اتفاقات أوسلو ومن بروتوكول باريس وهذه مسألة سياسية أكثر منها اقتصادية ، فهل مصر تعي هذا الأمر وقررت التخلص من حل الدولتين والتعامل مع قطاع غزة مباشرة ؟ .
هناك مسألة أخرى ذات بعد قانوني مرتبطة بفهم أو تصور مصري لاتفاقية أوسلو وعملية السلام . فاتفاقية أوسلو قامت على أساس قرار مجلس الأمن 242 وقرار 338 الذي يؤكد على القرار الأول ، ومن المعلوم أن قرار 242 لا يتحدث عن حل الدولتين أو عن سيادة فلسطينية على أي شبر من أرض فلسطين بل عن انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام 1967 – أو أراضي حسب التفسير الإسرائيلي – وإنهاء حالة الحرب وعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الحرب . ومن هذا المنطلق فإن التحرك المصري تجاه قطاع غزة سيجد ما يسنده انطلاقا مما آلت إليه عملية التسوية من فشل ، ورغبة مصر أن يكون لها تواجد في قطاع غزة – ما دامت السلطة غير قادرة أو غير مسموح لها بالعودة للقطاع – وذلك للحيلولة دون سقوطه تحت هيمنة أطراف معادية أو مهددة للأمن القومي المصري ، وقد نسمع عن حراك أردني في اتجاه الضفة من نفس المنطلق .
ومن جهة أخرى ومع أن مصر ترعى ملف المصالحة الفلسطينية إلا أن قدرتها على انجازها باتت محدودة بسبب ترسخ واقع الانقسام وظهور جماعات مصالح راغبة في استمراره من جانب ، ومن جانب آخر لأن إسرائيل لن تسمح بإعادة توحيد الضفة وغزة في إطار سلطة وحكومة واحدة ، ومصر لا تستطيع إجبار إسرائيل على تغيير موقفها ، بالإضافة إلى ظهور قوى ومحاور عربية وإقليمية تنافس مصر على الملف الفلسطيني وعلى ملف المصالحة .
العلاقات الفلسطينية المصرية تمر بمنعطف دقيق ، وحتى في حالة عودة مصر لتأخذ موقعها القومي في ريادة الأمة العربية فإن مفهوم البعد القومي ودور مصر لن يكون كما كان سابقا ، حيث ستعطي مصر الأولوية لأمنها ومصالحها الوطنية ، وهو أمن ومصالح لن يتحققا من خلال التصادم مع تل أبيب وواشنطن بل من خلال التقارب معهما ، وفي هذا السياق لا ندري مدى قدرة مصر على الصمود ومواجهة مخطط إسرائيلي أمريكي إقليمي لدولنة قطاع غزة بواقعه الجغرافي الراهن أو توسيعه باتجاه سيناء ، لتصبح دولة غزة هي الدولة الفلسطينية المنشودة في تجاوز للمبادرة العربية للسلام ولعديد من قرارات الشرعية الدولة بخصوص الدولة الفلسطيني؟! .