يعتبر فن التطريز من الفنون الشعبية الفلسطينية المتوارثة عبر الأجيال، والتي تطورت مع مرور الزمن إلى حرفة؛ فأصبحت مورد رزق لفئة كبيرة من النساء في فلسطين؛ حيث توفرت فيها خصائص تتلاءم مع البيئة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الفلسطيني. وقد رافق هذا التطور ابتكار نماذج جديدة ذات قيم جمالية عالية مستوحاة من أصالة هذه الحرفة.
وقد امتازت المرأة الفلسطينية، وخصوصًا الريفية، بإتقانها لفن لتطريز؛ فاستعملته في الكثير من مجالات الحياة؛ إذ زينت به بيتها وثوبها وأدواتها الخاصة؛ مستوحية رسوماتها وزخرفتها وألوانها من طبيعة بلادها وبيئتها المحلية؛ لهذا فنحن نرى التطريز الفلسطيني يختلف من منطقه إلى أخرى في تنسيق الألوان والرسومات؛ فلكل منطقه جغرافيه عناصرها ومكوناتها وتشكيلاتها الزخرفية المستمدة منها والمناسبة لها.
ويصعب على الباحث تأريخ فن التطريز الفلسطيني وذلك لأسباب مختلفة أهمها أن الأقمشة والخيوط تهترىء مع مرور الزمن؛ فهي لا تقوى على مقاومة عوامل الطبيعة؛ لهذا يندر أن يجد المرء عينات من التطريز الفلسطيني ترجع إلى مرحلة ما قبل القرن التاسع عشر.
لقد كان لموقع فلسطين المتميز في وقوعها على تقاطع طرق مؤديه إلى أوروبا واسيا وإفريقيا الدور الهام في إثراء هذا التراث الغني؛ بالإضافة إلى الحضارات المتعاقبة على المنطقة من الحضارة الكنعانية واليبوسية والعمورية؛ والغزوات الكثيرة التي مرت على هذه الأرض.
وقد خضع التطريز برسوماته وأنواعه لتغيرات أساسية مع مرور الزمن؛ إذ نجد في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين أن الأنماط والرسومات التطريزية كانت هندسية الشكل في المقام الأول؛ أما في الثلاثينيات من القرن الماضي، فقد بدأت تظهر مؤثرات جديدة غيرت في خصوصية التطريز التقليدي، كخيوط التطريز المصنعة في أوروبا، والتي صاحبتها الكتيبات الخاصة بالتطريز الغربي، ووجدت كلها طريقها إلى الأسواق الفلسطينية، فتسربت الرسومات الغربية مثل الأزهار والطيور والحيوانات إلى أثواب النساء التقليدية. وقد ظهر ذلك جليًا في الخمسينيات واستمر إلى يومنا هذا.
لقد عرفت قرى النساء الفلسطينيات سابقًا من أثوابهن؛ بعد أن يتم تفحص الرسومات والألوان المرسومة عليها؛ فقد شكلت الوحدات الزخرفية على الثوب مؤشرًا هامًا لمعرفة هوية القرية أو المنطقة؛ فالمرأة تعرف هذه الرسومات جيدًا، وترث هذه المعلومات من أمها وجدتها؛ فهي تبدأ بتعلم فن التطريز في سن مبكرة؛ فتنغرس فيها ضرورة نقل رسومات قريتها على أثوابها. وكما كانت المرأة أمينه في نقل تراث قريتها كانت خلاقه في التغيير في تطريزها فاكتسبت الرسومات التقليدية من ذوقها الخاص، دون المساس بالبنية الأساسية للتكوين.
ومع أن هذه التغيرات كانت بسيطة؛ إلا أنها أعطت الأثواب رونقًا متجددًا. وهناك عامل آخر أثر في تطور الرسومات التقليدية؛ وهو التزاوج بين أبناء أنحاء فلسطين المختلفة؛ إذ أصبحت النسوة مع انتقالهن مع أزواجهن إلى قرى أخرى أو مناطق أخرى، ينقلن معهن بعض رسومات قراهن الأصلية إلى قراهن الجديدة أو العكس، ويضعنها على أثوابهن.
لقد شجع كذلك تطور وسائل النقل، كالقطارات والباصات، أهالي فلسطين على التنقل والتزاور؛ الأمر الذي جعل المرأة ترى عن كثب أثوابا أخرى في مناطق أخرى؛ ما ساهم في تبادل الرسومات التطريزية؛ فالمرأة الفلسطينية، كغيرها من النساء، ترغب في التجديد وخلق عالم جمالي في لباسها وزينتها.
ومع أن التجديد والتغيير كانا دائمًا ظاهرين، إلا أن بعض الرسومات بقيت مقتصرة على مواقعها الجغرافية المحددة؛ فمنطقة رام الله مثلًا كانت تعرف باستعمالها رسمة النخلة؛ ومنطقه الخليل، بما يسمى خيمة الباشا؛ ومنطقه يافا، برسمة السرو مع قاعدة؛ ومنطقه غزة، برسمة الوسادة أو المقص؛ أما بئر السبع ومنطقتها، فقد عرفت باستعمالها رسمة الحجب. ومع أن مثل هذه الرسومات قد تميز منطقة عن أخرى فإننا نجدها أيضًا بأشكال متعددة وتركيبات مختلفة منتشرة في جميع أنحاء فلسطين.
أما بخصوص ترتيب التطريز على الثوب، فلم يكن عشوائيًا؛ بل مدروسًا ويغطي أربعة أجزاء رئيسية من الثوب هي:
1- القبة: وهي أقرب قطعة إلى الوجه؛ وأصلها اللغوي (القب) وهو ما يدخل في جيب القميص في الرقاع؛ لكنها تعنى في اللهجة الفلسطينية (ياقة الثوب).
2- الذيال: وهو الجزء الخلفي الأسفل من الثوب؛ وأصلها اللغوي (ذيل) وجمعها أذيال، أي ما جر من الثوب إذا سبل.
3- البنيقة: وهى جانب الثوب وأصلها اللغوي (البنيقة).
4- الكم: هو مدخل اليد ومخرجها من الثوب.
أنواع القماش: كان التطريز التقليدي يؤدى على قماش الكتان المنسوج محليًا باليد، والمسمى “الرومي” أو “الرهباني” – أو على نسيج هو مزيج من الكتان والقطن، يسمى أحيانا “القروي”؛ أو على قماش من القطن المنسوج بحياكة خاصة لتسهيل عد الخيوط وإظهار الغرزة بوضوح.
الخيوط المستخدمة في التطريز أربعة أصناف:
1- الخيط الحريري: أغلى الخيوط وأثقلها. والثوب المطرّز بها يزن ثمانية كيلوغرامات، ولا يُلبس إلا في الاحتفالات.
2- الخيط القطني: يطرّز به على كل أنواع الألبسة، وهو رخيص، ولكن بعض خيوط القطن تبهت وتحلُّ ألوان بعضها على ألوان الأخرى.
3- الخيط المقصب: في شمال فلسطين يطرِّزون به السترة والتقصيرة، وفي الثوب الدجاني الأبيض يطرّز به أعلى الصدر والكمان على قماش المخمل.
4- خيط الماكينة: يُطرّز به على قماش الساتان فقط، بالآلة. ويُستخدم هذا الخيط أيضاً في وصل أجزاء الثوب بعضها ببعض، ويطرِّزون فوق الوصلة بخيط من حرير.
توزيعات التطريز ومناطقه الرئيسية: مما لا شك فيه أن التطريز الفلسطيني منتشر في جميع مناطق وقرى ومدن فلسطين؛ وهناك سمات مشتركه تجمع جميع الأثواب الفلسطينية في جميع المناطق، من حيث استخدام الألوان أو الأشكال المحددة؛ مع احتفاظ كل منطقه بسمات أخرى مميزه لها عن المناطق الأخرى؛ وأحيانًا تميز قرية عن الأخرى؛ ومن نفس المنطقة عن جاراتها من القرى برموز خاصة بها. ويمكننا القول بأن هناك ستة مناطق رئيسية في فلسطين تتمايز في بينها من حيث الخصوصية في التطريز، وتتفرع منها مدن وقرى أخرى لها خصوصيتها أيضًا فيما بينها وهي:
1- منطقه القدس: وتتفرع منها منطقة رام الله وبيت لحم.
2- منطقه الخليل.
3- منطقه الشمال: تتفرع منها منطقه عكا – صفد – طبريا.
4- منطقه بئر السبع: تتفرع منها شمال سيناء.
5- منطقه يافا: تتفرع منها أسدود – صرفند – بيت دجن – السافرية – يازور – يبنة.
6- منطقه غزه: المجدل – هربيا – بيت لاهيا – دير البلح – خانيونس.
مميزات فن التطريز الفلسطيني
1- ثياب العمل أقل زخرفة من ثياب المواسم والمناسبات.
2- الفتيات غير المتزوجات لا يجوز لهن وضع ألوان الزينة باستثناء الكحل؛ ولذلك عمدن إلى تعويض ذلك بزخرفة ملابسهن بألوان زاهية.
3- تحتم العادات أن تقوم كل فتاة بتطريز ثيابها بمفردها.
4- كلما زاد سمك الخيط ولمعانه والمساحة المزخرفة على الثوب زادت قيمته الجمالية والمادية.
5- زخارف كبيرات السن من النساء أقل زخرفة من ثياب الفتيات، كما يجب أن تكون من قماش سميك، وألوانه قاتمة وأرضيتة غالباً سوداء؛ أو لون أرجواني قاتم أو بيج؛ كما إن ألوان وحداته الزخرفية قاتمة وتسمى (ألوان الحشمة) ويقصد بها “الوقار”.
6- اقتصرت الزخرفة (التطريز) على ملابس النساء، وذلك ابتداءً من الفتح الإسلامي.
وتحمل الوحدات الزخرفية الفلسطينية رموزاً أسطورية، تاريخية، فلكية، جغرافية شعبية، ورموز مرتبطة بالأرض والخضرة والطيور واستمرت حتى الآن؛ كدلالة على الهوية والوجود التاريخي.
وتعرف الغرزة باللهجة الفلسطينية الشعبية باسم “قطبة”، وهي الأساس الذي يعطي في النهاية الشكل العام للوحدات الزخرفية المطرزة. ومن أشهر الغرز المستخدمة:
1- التصليبة
2- المد
3- التسنين
4- التحريري
5- غرزة الماكينة
6- غرزة زراعة الحرير
7- السنسال
8- اللف
9- التنبيتة
10- الزجزاج.
وأخيرًا، لا بد من الإشارة إلى الخطر الذي تعرض له فن التطريز الشعبي الفلسطيني، وما زال؛ حيث عمدت الحركة الصهيونية والاحتلال إلى محاولة سرقة التراث الفلسطيني عن طريق تشويه الأزياء الشعبية الفلسطينية، بإدخال وحدات زخرفية لفن التطريز الفلسطيني، وإنشاء مشاغل للتطريز؛ بغرض طمس هذا التراث؛ والمشاركة في عروض أزياء عالمية، وادعاء أن هذه الأزياء من تراثها؛ كذلك شراء المطرزات القديمة والتخلص منها، وضمان عدم بقاء أي أثر لها، وتحريف الشكل العام للثوب، بتحويل أماكن الزخارف على أجزاء الثوب، وتغيير أسماء الوحدات الزخرفية وأشكالها؛ وبالرغم من ذلك بقي التراث الفلسطيني صامداً عصيًا على الانكسار والاندثار.