نُعيد ما سبق أن تحدثنا عنه سابقا بأن مصطلح الانقسام الفلسطيني ليس وصفا أو دلالة على الخلافات السياسية والأيديولوجية في الساحة الفلسطينية، فهذه موجودة حتى قبل تأسيس حركة حماس كما أنها كانت موجودة عند كل حركات التحرر الوطني أيضا في الدول والمجتمعات السياسية وخصوصا الديمقراطية، ومع ذلك لانُطلق على هذه الحالة مصطلح انقسام بل هي ظاهرة تعددية سياسية وايديولوجية مقبولة بل تعكس حرية الرأي والتعبير والتعدد الفكري والثقافي.
وعليه عندما نتحدث عن الانقسام الفلسطيني فنعني به فصل غزة عن الضفة وقيام سلطتين سياسيتين في ظل الاحتلال منفصلتين جغرافيا ومتعارضتين سياسيا وايديولوجيا، تطغى الخلافات بينهما أحيانا على خلافهما مع إسرائيل ووجودهما يشكل عائقا أمام الوحدة الوطنية واستنهاض المشروع الوطني التحرري.
بالرغم من انكشاف مخطط فصل غزة عن الضفة (الانقسام) واعتراف قادة العدو أن الانقسام يندرج ضمن استراتيجية إسرائيلية هدفها إفشال حل الدولتين وتدمير المشروع الوطني ولإثارة فتنة بين الفلسطينيين، إلا أن البعض ما زال يخلط بين الانقسام بهذا المعني والخلافات السياسية والأيديولوجية ويخلط بين متطلبات وآليات انهاء الانقسام ومتطلبات وأليات تحقيق الوحدة الوطنية، وهذا ما لمسناه حتى في لقاء الأحزاب الفلسطينية في العلمين في مصر نهاية يوليوز الماضي.
ومع أن قادة الأحزاب ومصر ودول الإقليم يعرفون حقيقة مخطط الانقسام ويعرفون عبثية مئات جولات المصالحة في أكثر من دولة عربية ولكنهم لا يجرؤون على البوح بالحقيقة حتى لا ينكشف تواطؤهم. لذلك سنعيد التذكير ببدايات هذا المخطط ومن هم المشاركون والمتورطون في هذا المخطط من خلال هذه المقالة أو البحث الموسع.
أولا: خطة (دولة غزة) وأطرافها
لا يؤسَس أي حديث عن الانقسام وصناعة (دولة غزة) على اتفاقات موقعة أو تصريحات ومواقف رسمية بهذا الشأن من إسرائيل أو حركة حماس الطرفان المُتهمان بالتخطيط لهذا الأمر بل على قراءة وتحليل لمخططات ومشاريع إسرائيلية، أيضاً إلى تحليل لما يجري في قطاع غزة من أحداث منذ انسحاب إسرائيل من القطاع في خريف 2005، وما تبع ذلك من ممارسات من طرف إسرائيل و حركة حماس تكرِّس فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية وخلق أوضاع في القطاع منفصلة ومتباينة عن الضفة الغربية، بالإضافة إلى التجربة التاريخية لقطاع غزة كما سنشير في الجزء الأخير من المقال.
حتى الآن لم يصدر عن حركة حماس أي اعتراف رسمي أنها تريد إقامة دولة أو إمارة في قطاع غزة، إلا أن العمل العسكري الذي أقدمت عليه منتصف يونيو 2007 وأدى لسيطرتها على قطاع غزة وما ترتب عليه من قطع التواصل بين الضفة وغزة وتشكيل حركة حماس حكومة وسلطة كاملة الأركان –أجهزة أمنية وشرطية ونظام ضريبي وفي القوانين والتشريعات، وشبكة علاقات خارجية الخ -، يعزز الشكوك بعدم ممانعة حماس بالتفرد بسلطة في قطاع غزة منفصلة عن السلطة الوطنية.
وبالنسبة إسرائيل فقد اضطر نتنياهو مؤخراً للكشف عن بعض تفاصيل مخطط دولة غزة وأعترف أن فصل غزة عن الضفة واستمرار سلطة حماس يحقق أهداف استراتيجية لإسرائيل، وحتى أحزاب المعارضة توافقت مع نتنياهو في هذا الشأن.
ففي تصريحات نتنياهو لصحيفة “يسرائيل هيوم” نشرته على موقعها الإلكتروني قبل أيام من الانتخابات العامة للكنيست (البرلمان) قال: «يجب على كل من يعارض قيام دولة فلسطينية، أن يدعم تحويل الأموال من قطر إلى حماس، هكذا أحبطنا (ونحبط) إقامة دولة فلسطينية» وتابع نتنياهو حديثه بالقول إن غزة والضفة الغربية كيانان منفصلان، مضيفا أن ذلك يعد على المدى الطويل ليس بالأمر السيئ بالنسبة لإسرائيل.، وعن إجراءات تخفيف إسرائيل الحصار على غزة والتي تمت مؤخرا بوساطة مصرية وقطرية وأممية مقابل تخفيف حركة حماس مسيرات العودة، قال نتنياهو “تمت تغطية هذه الأموال من قبل القطريين، الأمر الذي منع خطة أبو مازن من أن تؤتي ثمارها، وبقاء فصل غزة عن يهودا والسامرة (الضفة الغربية)”.، وأضاف إذا ظن أحد أنه ستكون هناك دولة فلسطينية ستحيط بإسرائيل على كلا الجانبين، فـ”هذا لن يحدث”.
وبالنسبة للسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، لم يصدر حتى الآن دراسة أو تقرير رسمي يضع ما جرى في يونيو 2007 في قطاع غزة في سياق صناعة دولة غزة، حتى اللجنة التي تم تشكيلها بطلب من الرئيس أبو مازن للتحقيق في أسباب سقوط قطاع غزة بيد حماس ركز على الجانب الأمني والعسكري الداخلي مع إشارة مبهمة لمخطط (دولة غزة) ، حيث ورد فيه : ( إن بعض المؤشرات تقود إلى الاستنتاج بأن بعض القيادات انخدعت بأطروحات حماس و وقعت في مصيدتها، فكانت تنظر إلى المجابهة مع حماس، بمعطيات الصراع الداخلي الفتحاوي وانغماسها فيه، مما غيب عنها بصيرة رؤية الأحداث والتحولات الجارية بمحيطها، وكذلك الأبعاد الحقيقية لمجريات تلك الأحداث) .[1]
ومن الواضح أن حديث التقرير عن (الصراع الداخلي الفتحاوي) يشير الى الخلاف بين جماعة محمد دحلان والأمن والوقائي من جهة وجماعة أبو ماهر حلس من جانب آخر حيث رفض الأخير المشاركة في الدفاع عن مؤسسات السلطة ومقرات حركة فتح بحجة أن المعركة ليست معركة حركة فتح، مشيراً للخلافات المحتدمة آنذاك بين مجمد دحلان وحركة حماس. [2]
إن رؤية شمولية لمجريات الأحداث منذ انسحاب إسرائيل من القطاع 2005 ثم سيطرة حماس على قطاع غزة في يونيو 2007 إلى اليوم تؤكد بأن ما جرى ليس نتيجة خلافات بين حماس وحركة فتح، ولم يبدأ الانقسام بسيطرة حماس على القطاع، بل هو مخطط في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي تم الاعداد له والتفكير به قبل انقلاب حركة حماس بل حتى قبل ظهورها، إنه مخطط استراتيجي شاركت فيه وتقاطعت وأحياناً تلاقت فيه مصالح عدة أطراف: –
1- إسرائيل الراغبة بتدمير المشروع الوطني وحل الدولتين وإفشال قيام الدولة في الضفة وغزة، والرغبة أيضاً بالتخلص من قطاع غزة لكثافته السكانية وكونه شكل عبر التاريخ حالة وطنية مقاوِمَة تستنهض معها الحس الوطني عند كل الفلسطينيين.
2- الولايات المتحدة الأمريكية المتوجهة آنذاك نحو بناء شرق أوسط جديد – مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي كشفت عنه كونداليزا رايس وزيرة خارجية الولايات المتحدة عام 2006- يغرق في (الفوضى الخلاقة) وأداتها في ذلك الجماعات الإسلامية وخصوصاً جماعة الإخوان المسلمين المتوافقين مع واشنطن في أن يشاركوا في الحياة السياسية رسمياً والتمكين من السلطة.
3- حركة حماس، خصوصا تيار جماعة الإخوان المسلمين، المناوئين لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية والطامعين في الحلول محلها والراغبين في امتداد مشروع الإسلام السياسي إلى فلسطين من خلال إقامة إمارة إسلامية.
4- السلطة الفلسطينية وحركة فتح بعجزهم عن مقاومة هذا المخطط بل ومشاركة بعض القيادات في المخطط سواء قبل أن يتم المراهنة على حركة حماس لتنفيذ المخطط أو خلال المواجهات المسلحة.[3]
5- دولتا قطر وتركيا اللتان لعبتا وما زالتا دور العراب لهذا المخطط، ومصر كأداة مساعدة وبدور لوجستي مهم بسبب جوارها لقطاع غزة.
6- إيران من خلال دعمها العسكري والسياسي والإعلامي لحركتي حماس والجهاد الإسلامي بهدف استمرار حالة التوتر والصدام في الأراضي المحتلة وإعاقة مسلسل التسوية السياسية بما ينسجم مع سياساتها في المنطقة وبما يعزز محور المقاومة.
انطلاقا مما سبق فحتى لو قررت حركة حماس التخلي عن سيطرتها على القطاع فلن تعود الأمور الى ما كانت عليه، أي سلطة وحكومة واحدة في الضفة والقطاع كما كان الأمر فبل تنفيذ خطة الفصل الأحادي في خريف 2005.
ثانيا: السياق التاريخي للمخطط
تمت الإشارة إلى الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة كسيناريو محتمل في تقرير صادر عام 1989 عن مركز جافي الإسرائيلي، وفي التعقيب على نتائج هذا السيناريو يقول التقرير: (ومن الممكن أن تكون الآثار الناجمة داخل القطاع حادة بشأن السلطة بين وطنيين علمانيين – مدعومين بعناصر من منظمة التحرير يأتون من الخارج – وبين مسلمين أصوليين يتمتعون بقوة أكبر من قوتهم في الضفة الغربية. وأي تكن النتيجة فإن الدويلة في غزة ستلهب نزاعاً مطرداً باستمرار مع إسرائيل ولن يجني أي من الفلسطينيين الآخرين فائدة فورية منه. وستجد السلطات الغزية صعوبة في احتواء العنف الموجه نحو إسرائيل وفي حين أنها ستكون قلقة بالتأكيد من ردأت إسرائيلية انتقامية عنيفة وغير متحمسة لعودة الاحتلال فمن غير الواضح إلى أي درجة سيرتدع السكان عامة بفعل الخطر الأخير فالأحوال في غزة قد تسوء إلى درجة أن بعض الغزيين قد يستعيد ذكرى الاحتلال الإسرائيلي بشيء من الحنين) .[4]
خلال المفاوضات التي سبقت توقيع اتفاقية أوسلو 1993 كانت إسرائيل تصر على أن تقتصر السلطة الفلسطينية على قطاع غزة فقط، وكان عنوان التفاهمات الأولى (غزة أولا) وكانت إسرائيل مستعدة لمنح الرئيس أبو عمار دولة في قطاع غزة، إلا أنه مع رفض الرئيس أبو عمار للفكرة تم تسمية الاتفاق بـ (غزة وأريحا أولاً)، وفيما بعد استعدت إسرائيل لتوسيع نفوذ السلطة الفلسطينية لمناطق أخرى في الضفة الغربية. بالرغم من وجود نص في اتفاقية أوسلو يؤكد على وجود ممر آمن بين الضفة وغزة إلا أن إسرائيل عطلته وفرضت قيوداً على تنقل الفلسطينيين ما بين غزة والضفة، كما أنها رفضت توحيد الهوية أو نقل مكان الإقامة، وأهالي قطاع غزة لا يستطيعون الإقامة رسمياً في الضفة الغربية.
جاءت الظروف لتنفيذ المخطط الإسرائيلي عملياً بعد وصول عملية التسوية لطريق مسدود واندلاع انتفاضة الأقصى 2000، حيث طرح رئيس وزراء إسرائيل شارون في مؤتمر هرتسليا يوم 18-12- 2003 مخطط فصل غزة عن الضفة، وصادقت الحكومة الإسرائيلية على خطة الفصل المعدلة يوم 4-6 -2004، وتم تفعيل الخطة عملياً مع احتدام الصراع مع أبو عمار وسعي إسرائيل وواشنطن لتصفيته سياسياً قبل أن يصفوه جسدياً والبحث عن قيادة بديلة.
كان عام 2004 حاسماً فيما يتعلق بمخطط فصل غزة عن الضفة وتصفية المشروع الوطني الفلسطيني مما يهيئ لقيام كيان منفصل في غزة، فهو العام الذي شهد في نهايته اغتيال أبو عمار بعد حصاره في المقاطعة في رام الله، وقرار حماس الدخول في النظام السياسي الفلسطيني الرسمي من خلال موافقتها على المشاركة في الانتخابات في البداية بلدية عام 2004/2005 ثم لأول مرة تشريعية يوم 25 يناير 2006، وهو نفسه العام الذي طرحت فيه واشنطن تصورها للشرق الأوسط الجديد وما يتضمن من دعوة جماعات الإسلام السياسي المعتدلة للمشاركة في الحكم في العالم العربي.
في السادس من مايو عام 2004 نشرت صحيفة “يديعوت “الإسرائيلية للمرة الأولى ما سمي بـ”خطة التسوية الإسرائيلية الدائمة” التي وضعها رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي “جئيورا آيلاند” والتي تتضمن تسوية إقليمية، وتوسيع قطاع غزة نحو سيناء.[5]
في 1 نوفمبر 2004 صدرت وثيقة عن مؤسسة Toledo International Centre for Peace [6] تتضمن ورشات عمل غير رسمية عقدها فريق مشترك فلسطيني /إسرائيلي في مدريد دعا لها شلومو بن عامي وزير خارجية إسرائيل الأسبق والذي كان يعمل نائبا عن مدير المؤسسة[7]. في ذاك الوقت كان الرئيس أبو عمار محاصراً في مقر المقاطعة في رام الله. تم عقد هذه الورشة في خضم العداء الأمريكي والإسرائيلي للرئيس أبو عمار [8] واتفق الطرفان على البحث عن قيادة فلسطينية جديدة، ولم تكن الأطراف العربية المعنية وخصوصاً مصر وأطراف دولية بعيدة عما يجري، حيث رفض القادة العرب المجتمعين في قمة بيروت السماح لياسر عرفات المحاصر مخاطبة القمة العربية عبر الهاتف أو الفيديو كونفرنس . [9]
كانت النقاشات واضحة ومركزة على خلق منطقة إدارية انتقالية فلسطينية في قطاع غزة (PAT ) وهذا يعني أن قطاع غزة: ( يجب أن يكف عن كونه منطقة محتلة …، إذ يجب تغيير وضعه القانوني استجابة لهذا التغيير، وسيحتاج إلى بنى سياسية وقانونية جديدة يجب إقامتها لإدارة الإقليم بشكل فعال … ). كما تحدثت الوثيقة عن تشكيل “ميثاق غزة ” من أشخاص من منظمة التحرير أو من السلطة أو من خارجهما ومن المجتمع المدني: ( ويجب أن يتم التصديق على رئيس تنفيذي، أو رئيس (Chief ) للإدارة الانتقالية الفلسطينية وكذلك على وزارة لمساعدة المعينين لإدارة شؤون المناطق المخلاة في غزة) … وترى الوثيقة أنه من الممكن إيجاد الشخص أو الهيئة التي ستدير القطاع إذا قامت مصر والمجتمع الدولي بالضغط على السلطة الفلسطينية والرئيس عرفات من أجل الموافقة على تعيين شخص أو لجنة لتولي مسؤولية الحكم والإدارة في غزة بعد الانسحاب. [10]
في تلك الفترة كان المخططون يراهنون على الرجل القوي في قطاع غزة محمد دحلان الذي يتحكم بالأجهزة الأمنية في القطاع وخصوصاً جهاز الأمن الوقائي كما يملك ميليشيات تابعة له لا نظير لها في الضفة الغربية وهو الذي ترأس اللجنة المشرفة على تنفيذ خطة الفصل أحادي الجانب وكان دائما يكرر أنه سيجعل من غزة سنغافورة الشرق الأوسط، إلا أنه مع ظهور مخطط الشرق الأوسط الجديد وحاجة واشنطن لجماعة الإخوان المسلمين لتنفيذ هذا المخطط تم التراجع عن خيار محمد دحلان لصالح حركة حماس.[11]
بعد سيطرة حماس على القطاع اعتبرت إسرائيل وبقرار من الكابينت صدر يوم 18-9 2007 أن قطاع غزة كياناً معادياً. ومنذ ذلك وبشكل مخطط ومدروس تم توجيه الأمور في قطاع غزة وفي الضفة بما يعزز تكريس عملية الفصل بينهما والتعامل مع قطاع غزة كأنه كيان سياسي قائم بذاته. كان فرض الحصار على قطاع غزة وعمليات العدوان العسكري أو الحروب المتكررة على القطاع من آليات ومستلزمات تكريس الانقسام وتعزيز التباين بين الضفة وغزة وجذب الانتباه إلى ما يجري في القطاع وإبقائه جبهة مفتوحة حتى يتم إبعاد الأنظار عن الضفة والقدس حيث الحرب الفعلية التي تخوضها إسرائيل وحيث يجب أن تكون المواجهة مع إسرائيل.
ثالثا: هل (دولة غزة) فكرة قابلة للتحقيق
ما ساعد عملية الفصل وصيرورة غزة كيانا قائما بذاته أن قطاع غزة شكل ما بين حرب 1948 وحرب 1967 حالة وطنية قائمة بذاتها. فقبل 1948 كان قطاع غزة جزءاً لا يتجزأ من فلسطين الانتدابية ولكن بعد النكبة مباشرة تغيرت التركيبة الجغرافية والسكانية للقطاع، حيث تم إعادة رسم حدوده حسب حدود الهدنة التي تم توقيعها بين الجيش المصري والجيش الإسرائيلي في نوفمبر 1949، وبسبب الحرب لجأ لقطاع غزة حوالي (200000) مائتي ألف فلسطيني مما غير الطبيعة السكانية للقطاع واستمر قطاع غزة يحمل الهوية الفلسطينية ولم تحاول مصر ضمه لها كما جرى بالنسبة للضفة الغربية التي تم ضمها للأردن.
بالرغم من خضوع قطاع غزة لحاكم إداري مصري إلا أن القطاع كان يتمتع بنوع من الحكم الذاتي، وخلال هذه السنوات تشكلت حالة سياسية وطنية متميزة ومستقلة نسبياً. ففي سنة 1955 ثم وضع القانون الأساسي ونصت المادة (23) منه على تكوين مجلس تشريعي عن طريق التعيين، بالإضافة إلى المجلس التشريعي تشكلت إدارة مدنية وأمنية فلسطينية، أيضا كان للقطاع اقتصاده المكتفي ذاتياً بسبب وجود نشاط زراعي وخصوصاً الحمضيات التي كان يتم تصديرها للخارج، كما كان ميناء غزة يشكل منفذاً تجارياً مهماً ولم يكن يخضع للحصار كما هو اليوم. ولم يرتبط مع الضفة في كيان سياسي فلسطيني واحد إلا تحت الاحتلال وفي إطار سلطة حكم ذاتي محدود في الفترة الممتدة من 1994 إلى 2007.
لا شك أن متغيرات كثيرة طرأت على قطاع غزة وعلى الحالة الفلسطينية بشكل عام. فواقع قطاع غزة راهناً من حيث المساحة وكثافته السكانية والوضع الاقتصادي يُحبط أي تفكير بتحويله لكيان منفصل ومستقل، ولكن المخططين لقيام دولة غزة لديهم حلول لكل المشاكل. فبالنسبة لضيق المساحة فالمخططون المعنيون بمشروع غزة لديهم سيناريوهات متعددة مثلا: افتعال حرب جديدة على القطاع أو حرب أهلية أو كليهما معا، وقد ينتج عن هذه الحرب، سواء نتيجة توجيه مقصودا أو تلقائيا، اندفاع الآلاف من أهالي القطاع إلى سيناء الخالية من السكان وحيث الوجود العسكري المصري محدوداً، وفيما جرى في سوريا سابقة يمكن أن تتكرر، فنتيجة الحرب اندفع أكثر من مليوني سوري إلى الأردن ولبنان دون أن يتمكن أحد من صدهم، وبالنسبة للحالة الفلسطينية وفي حالة رفض مصر لمخطط أيلاند بشكل رسمي يمكن افتعال حرب كبيرة على جبهة غزة تؤدي لهجرة مئات الآلاف إلى سيناء، أو افتعال حرب أهلية في القطاع تؤدي لنفس النتيجة، هذا ما كان مخططاً له حسب مشروع الإسرائيلي ايجورا آيلاند، وبذلك سيتم حل مشكلة محدودية مساحة قطاع غزة.
وهناك سيناريو أو احتمال آخر وهو تفعيل مبدأ تبادل الأراضي الذي تم التوافق عليه بين إسرائيل والمفاوضين الفلسطينيين منذ سنوات وفي هذه الحالة قد تحدث التبادلية بأن تمنح إسرائيل جزءاً من النقب لتوسيع دولة غزة مقابل أراضي المستوطنات في الضفة والقدس.
أما بالنسبة لمحدودية الإمكانيات المادية، فحيث إن الأطراف المعنية بهذا المخطط قوى ودول نافذة متواطئة مع إسرائيل فلن تعوزها الحيلة لحل هذه الإشكالات، فيمكنها مثلا تحويل ما تقدمه من أموال للسلطة – أو جزء منها – إلى سلطة حماس في قطاع غزة وهذا ما يجري بالنسبة للأموال القطرية والتركية، وقد تعمل لاحقا على تمكين السلطة القائمة في قطاع غزة من ممر مائي ونصيب من النفط والغاز المُكتشف في المياه الإقليمية للقطاع، وكذا تشغيل المنطقة الاقتصادية للقطاع، مع تسهيلات اقتصادية إسرائيلية والسماح بدخول عدة ألاف من عمال غزة لإسرائيل.
ففي مقال منشور في صحيفة يديعوت أحرونوت في الأول من يونيو الجاري 2023 للكاتب الإسرائيلي الجنرال ايتان بن الياهو القائد الأسبق لسلاح الجو الإسرائيل، يطرح الكاتب رؤية مفصلة لدولة غزة والدور المصري المنتظر، حيث يقول ” لتسريع عملية إقامة دولة في قطاع غزة لا تكفي الظروف الجغرافية، الدافع السياسي ضروري أيضا، في هذا الصدد مصر لاعب رئيسي لأن الصراعات بين إسرائيل وحماس تعرض مصر لأخطار لذلك من المعقول أن نفترض أنه تحت الضغط والأمل ترغب مصر حتى في زيادة مساحة قطاع غزة على حساب أراضي سيناء وهو توسع يمكن أن يصل إلى العريش” [12]
ما بين الواقع القائم في القطاع الآن وقيام دولة غزة فعلياً سيتكثف الحضور المصري الأمني والسياسي في القطاع كما كان قبل حرب حزيران 1967 مع مزيد من الصلاحيات لحكومة أو سلطة غزية تتدبر الأمور المعيشية للناس وتتصدى لحالات الانفلات الأمني وتحافظ على الهدنة مع اسرائيل، وقد نشهد قريبا تواجد مقرا رسمياً لمصر بصلاحيات أمنية وسياسية واسعة.
خاتمة
خطورة مشروع دولة غزة في حالة استكماله لا يكمن في ضيق مساحة القطاع ولا بكثافته السكانية ولا فيمن يحكم في غزة، بل في خطورة هذا الكيان على المشروع الوطني حتى وإن لم يعلن رسمياً عن دولة غزة، حيث سيتم تقزيم واختزال فلسطين والدولة الفلسطينية بقطاع غزة فقط مع العمل على إخراجه من تحت إيالة ومسؤولية منظمة التحرير الفلسطينية مما سيشكك بوحدانية التمثيل الفلسطيني وبالصفة التمثيلية للمنظمة، مع إيجاد حلول أخرى للضفة الغربية كضمها لإسرائيل أو تقاسمها وظيفياً مع الأردن أو خلق حالة فوضى تسمح لحكم مناطقي للعشائر وروابط القرى.
إن أخطر ما في هذا المخطط أن يتحول قطاع غزة لساحة صراع فلسطيني/فلسطيني على مَن يحكم قطاع غزة، وقد تغذي أطراف خارجية هذا الصراع مما سيخلق حالة من الفوضى في القطاع. وفي هذه الحالة ستنتهي القضية الوطنية الفلسطينية وينتصر المشروع الصهيوني في فلسطين.
الهوامش
[1] – بعد يومين من انقلاب حركة حماس في يونيو 2007 شكل الرئيس محمود عباس لجنة تحقيق تحت رئاسة أمين عام الرئاسة الطيب عبد الرحيم وعضوية كل من: د. رفيق الحسيني، نبيل عمرو، د. سعيد أبو علي، لواء/ أحمد عيد، عميد/ حازم عطا الله، عميد/يونس العاص، أ. علي مهنأ. وأ حسن العوري. وقدمت اللجنة تقريرها منتصف فبراير 2008 في حدود 64 صفحة، تحت عنوان: تقرير لجنة التحقيق بشأن التقصير في مواجهة الميليشيات المسلحة الخارجة عن القانون.
[2] – مع أن حركة حماس بررت ما قامت به بأنه حسم مع جماعة محمد دحلان والأمن الوقائي الذين رفضوا الاعتراف بحكومتها إلا أن الحركة تصالحت لاحقا مع جماعة دحلان وسمحت لهم بالعودة للقطاع فيما واصلت عدائها للقيادة الفلسطينية ولمنظمة التحرير، وعندما تولى احمد حلس قيادة تنظيم فتح في القطاع بتكليف من اللجنة المركزية توطدت علاقاته مع حركة حماس حتى يجوز القول إن كلا طرفي حركة فتح يشتغلون في غزة تحت عباءة حركة حماس ويسهلون عليها مأموريتها في حكم القطاع.
[3] -سبق انقلاب حماس حالة فوضى وتفكك في السلطة وأجهزتها الأمنية وعدم تسلم أفراد أجهزة الأمن لرواتبهم مع تفريغ هذه الأجهزة من كوادرها الأساسيين، وفي نفس الوقت انتشار الفلتان الأمني والميليشيات المسلحة خارج الأجهزة الأمنية الرسمية، هذا الوضع كان في قطاع غزة ولم يكن متواجدا في الضفة الغربية.
[4] – الدولة الفلسطينية: وجهات نظر إسرائيلية وغربية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1990، ص:132.
[5] – البنود الرئيسية لخطة أيغور آيلاند:
أولا: تتنازل مصر عن 770 كيلومتراً مربعاً من أراضي سيناء لصالح الدولة الفلسطينية المقترحة. حيث ستتضاعف مساحة القطاع ثلاث مرات.
ثانيا: في مقابل هذه المنطقة التي ستُضم إلى غزة، يتنازل الفلسطينيون عن ١٢% من مساحة الضفة لتدخل ضمن الأراضي الإسرائيلية.
ثالثا: في مقابل الأراضي التي ستتنازل عنها مصر للفلسطينيين، تحصل مصر على أراض من إسرائيل جنوب غربي النقب بالإضافة إلى المميزات الاقتصادية والأمنية والدولية التي ستحصل عليها القاهرة لاحقا.
[6] – INTERNATIONAL CENTER FOR PEACE مركز توليدو الدولي للسلام ومقره مدريد وهو مركز مكلف بدعم جهود السلام في العالم ويتكون مجلس إدارته من شخصيات سياسية مشهورة ومن أكاديميين من جنسيات مختلفة، وكان نائب رئيس المركز شلومو بن عامي وزير خارجية إسرائيل الأسبق.
[7] – وثيقة ورشات عمل مدريد حول الحكم في قطاع غزة ،1 نوفمبر 2004. وقد ترجم الوثيقة اللواء الركن المتقاعد /عبد الكريم عاشور من فلسطين. عنوان الوثيقة الأصلي:
TOLEDO INTERNATIONAL CENTER FOR PEACE
Felipe 1v، 5 entreplanta izda. 28014 Madrid Espana
[8] – كان يرأس فريق العمل الفلسطيني خالد اليازجي وكان آنذاك الذراع الأيمن للقيادي الفتحاوي محمد دحلان.
[9][9] – جرت ورشات العمل تحت رعاية واستضافة مركز توليدو الدولي للسلام في مدريد (FRIDE) وأيضاً من قبل Portland Trast في لندن. حدثت ورشة العمل الأولى من 17 ـــ 18 أبريل 2004 في مدريد، مباشرة بعد تبادل الرسائل بين الرئيس بوش ورئيس الوزراء شارون. كان الاجتماع الأول قادراً على صياغة توصيات، التي كان متفق عليها بين كل من الإسرائيليين والفلسطينيين المشاركين، حول القضايا الأساسية التي يعتقد بأنها جوهرية لنجاح تطبيق الانسحاب الإسرائيلي. هذه التوصيات وضعت أمام الرباعية في خطاب أرسل إلى سولانا في 3 مايو 2004. وقد عقد المركز بعد ذلك عدة ورشات عمل، ورشتان في عام 2004: من 15 ـــ 16 مايو 2004 في لندن، وكذلك من 25 ـــ 27 يونيو 2004 في توليدو في اسبانيا. وفي نوفمبر 2007 وبمناسبة مرور 15 عاما على مؤتمر مدريد عقد المركز مؤتمرا في مدريد لبحث قضايا السلام في المنطقة.
[10] – المصدر السابق: ص 11
[11] – قبل انقلاب حماس كان القطاع وكأنه خاضع بالمطلق لمحمد دحلان الذي كان يوعد أهالي غزة بأنه سيجعل من القطاع سنغافورة الشرق الأوسط، كما أطلق صحفي فرنسي على القطاع مسمى (دحلانستان) أي دولة محمد دحلان.
[12] – صحيفة يديعوت أحرونوت: 1-6- 2023