حول العلاقة بين حركة فتح والسلطة الوطنية

29 يناير 2015آخر تحديث :
حول العلاقة بين حركة فتح والسلطة الوطنية

حركة فتح والسلطة

تحليل سياساتمتابعات

حركة فتح والسلطة

[*]د. إبراهيم أبراش

مقدمة

نظراً لموقع حركة فتح كالحزب الأكبر في منظمة التحرير ورئيسها رئيس منظمة التحرير، فإن أية قراءة لعلاقة حركة فتح بالسلطة الوطنية ستكون متداخلة مع علاقة منظمة التحرير بالسلطة وتطور مفهوم السلطة والدولة عند المنظمة. ومن جهة أخرى لا يمكن بحث تأثير قيام السلطة على حركة فتح إلا بالعودة للمنطلقات الأولى للحركة لمعرفة إن كانت فكرة السلطة والدولة جزءاً من منطلقات حركة فتح أم دخيلة عليها؟.

تساؤلات كثيرة تفرض نفسها في الذكرى الخمسين لانطلاق حركة فتح، ومنها العلاقة ما بين حركة فتح والسلطة الوطنية، وهل دخول حركة فتح لنهج التسوية السياسية بداية، ثم تشكيلها للسلطة الوطنية لاحقا، يتعارض مع مبادئ ومنطلقات حركة فتح كحركة تحرر وطني؟ أم أن فكر التسوية جزء أصيل من فكر فتح ومنطلقاتها الأولى؟ وهل انغماس حركة فتح بالسلطة ومشاكلها وتحملها لتداعياتها وأخطائها، وكذلك انشغالها باستحقاق الدولة من خلال الشرعية الدولية أثر على توصيف فتح بأنها حركة تحرر وطني؟ وكيف تعاملت حركة فتح مع التحولات والمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية خلال نصف قرن من وجود الحركة؟.

سنحاول الإجابة عن إشكالية العلاقة وتطورها بين حركة فتح والسلطة من خلال تتبع تطور فكر حركة فتح، من فكر الثورة والتحرير مرورا بالبحث عن دولة في إطار قرارات الشرعية الدولية، إلى قيام سلطة الحكم الذاتي ثم العودة للشرعية الدولية مرة أخرى، وذلك من خلال المحورين التاليين:-

المحور الأول: مفهوم الدولة والسلطة في فكر حركة فتح.

المحور الثاني: حركة فتح وسلطة الحكم الذاتي: علاقة ملتبسة.

المحور الأول:-

مفهوم الدولة والسلطة في فكر حركة فتح

لعقود طويلة انشغلت حركة فتح بنهج وفكر التحرير، وكانت فكرة الثورة والتحرير بما تحمله من طهرية ورومانسية أكثر حضورا من فكرة الدولة أو السعي لممارسة سلطة، فاستراتيجية وفكر الثورة: التحرير لا تتطابق مع استراتيجية وفكر الدولة، أو أن الدولة وشكلها وطبيعة سلطتها قضية مؤجلة في أفضل الأحوال. وعليه هيمنت في السنوات الأولى لحركة فتح الأدبيات التي تتحدث عن فكر التحرير والثورة، فيما قلت أدبيات الدولة والسلطة والتأريخ لهما. ومع ذلك فإننا نجد في أدبيات حركة فتح قبل أن تعلن عن انطلاقتها رسميا في الفاتح من كانون الثاني (يناير) 1965 دعوة لقيام كيان فلسطيني في الأراضي الفلسطينية غير المحتلة، وهذا ما نجده في نشرة (فلسطيننا) التي كانت تعبر عن فكر الحركة: (إن الكيان مطلب أساسي من مطالبنا نحن عرب فلسطين المشردين، وقد طال علينا الزمن، ونحن نعيش حياة الذل والهوان والتشرد. والكيان حق شرعي لنا… إن هناك أقساما عربية من فلسطين وعلى هذه الأقسام ينبغي أن نشيد صرح حكم وطني فلسطيني ثوري قيادي).[1]

خلال خمسين سنة طرح الفلسطينيون –وتعاملوا مع- سبع تصورات ومشاريع للدولة الفلسطينية[2]، هذا التعدد في التصورات أربك السياسة الفلسطينية وأربك المتعاملين معها، وأحدث انقساما داخليا ما بين حركة فتح التي كانت تقف وراء كل هذه التصورات والطروحات حول الدولة من جهة، والمعارضة من جهة أخرى، ولم يخدم كثيرا القضية الفلسطينية لأنه أظهر وكأن الفلسطينيين يبحثون عن أية دولة، وليس تحرير الدولة الفلسطينية المعروفة والمحددة تاريخيا.

أما أهم المحطات في سياق توجه حركة فتح نحو البحث عن الدولة فهي ثلاث:

أولا: دولة فلسطين الديمقراطية (العلمانية)

تعتبر حركة فتح أول جهة فلسطينية تحدد هدف النضال الفلسطيني بإقامة دولة ديمقراطية تتعايش فيها كل الطوائف بتساو، ومع ذلك فإن تفحص تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية قبل 1948 يشير إلى وجود مواقف تعبر عن نزعة إنسانية للتعايش بين جميع المواطنين بغض النظر عن الدين أو العرق.[3]

يعود الأساس والمنطلق لطرح مفهوم فلسطين الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني عند حركة فتح إلى ضرورة وضع صياغة جديدة للتصور الفلسطيني لمصير اليهود بعد التحرير، ومن هنا كلفت حركة فتح أحد قادتها -أبو إياد- بطرح فكرة فلسطين الغد، وتم الإعلان لأول مرة عن الفكرة في مؤتمر صحافي عقده أبو إياد يوم العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) 1968، أعلن فيه أن الهدف الاستراتيجي للثورة الفلسطينية هو دعم إنشاء دولة ديمقراطية على امتداد فلسطين التاريخية، يعيش فيها العرب واليهود في وفاق دون أي تمييز عنصري.

أعادت الحركة تأكيد هذا الهدف بصورة أكثر جلاء وتحديدا في بداية عام 1969 معلنة: (نحن نقاتل في سبيل إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية يعيش فيها الفلسطينيون بكل طوائفهم… مسلمين ومسيحيين ويهود في مجتمع ديمقراطي تقدمي، ويمارسون عباداتهم وأعمالهم مثلما يتمتعون بحقوق متساوية). وتأكيدا من فتح على إنسانية الهدف استطرد البيان نفسه قائلا: (إن ثورتنا الفلسطينية لتفتح قلبها وفكرها لكل بني الإنسان الذين يريدون أن يعيشوا في المجتمع الفلسطيني الحر الديمقراطي وأن يناضلوا في سبيله بصرف النظر عن اللون أو الدين أو العرق) [4].

أشارت كافة التصريحات الصادرة عن حركة فتح بخصوص الدولة الديمقراطية على أن المكون الأساس لمفهوم دولة فلسطين الديمقراطية، هو تأكيد الطابع الإنساني للثورة الفلسطينية، وتحطيم الفكرة الخاطئة عن هدف الثورة الفلسطينية بأنها ضد اليهودي بغض النظر عن معتقداته أو أفكاره، ووضحت حركة فتح أنها ضد الصهيونية كأفكار عنصرية شوفينية، وليست ضد اليهودية كدين، كما أكد أبو إياد في مقابلة له مع صحيفة الطليعة المصرية، بأن الثورة الفلسطينية تستنكر اضطهاد الإنسان، والتمييز العرقي والديني، وأبدى استعداد الحركة لتقديم العون إلى اليهود وتزويدهم بالسلاح والقتال إلى جانبهم ضد مضطهديهم.[5]

يبدو أن فكرة التعايش بين اليهود والعرب في دولة واحدة لم تُستوعب جيدا من أطراف فلسطينية وعربية عديدة إلا بعد مرور بعض الوقت، ذلك أن الإحساس العام الفلسطيني والعربي بقي مشبعا بصور القهر والاضطهاد والوحشية التي أنزلها الإسرائيليون بالعرب، فذكرى دير ياسين وكفر قاسم ومآسي حربي 1956 و1967، وفقدان الأرض والوطن ومعاناة التهجير الخ، استمرت عالقة بالأذهان، بل إن كل يوم جديد يمر يأتي معه بمزيد من الألم النفسي الدافع للحقد على الإسرائيليين والرافض لأي فكرة للتعايش معهم. وغالبا فإن المواطن العادي لا يعنيه كثيرا أو يحفل بأن يدقق في هوية الإسرائيلي صهيوني هو أم لا… فمن يقيم على أرض فلسطين ويُشرد أصحابها ليحل محلهم هو مستعمِر صهيوني بغض النظر عن معتقداته الفكرية والأيديولوجية، لأن هويته الاستعمارية وصهيونيته العملية تكمن في تواجده في فلسطين مختارا، وبناءً على هذا، من الصعب إزالة تراكمات سنين طويلة من العداء والتوتر بمجرد رفع شعار إنساني حضاري، وخصوصا أن هذا الموقف الإنساني الفلسطيني لم يعره الطرف الآخر كبير اهتمام أو يتجاوب مع دوافعه الإنسانية بمواقف إنسانية متشابهة.

لا ريب أن طرح شعار الدولة الديمقراطية العلمانية وإن كان يعبر عن مواقف إنسانية وحل حضاري إلا أن تحويله إلى واقع كان بحاجة إلى تغيير جذري في المواقف والعقليات وإلى حدوث مصالحة تاريخية ودينية، وهو الأمر الذي وضحه ياسر عرفات في كلمته المشهورة في الأمم المتحدة عام 1974، فبعد أن أكد على المكون الإنساني لهدف الثورة الفلسطينية بإقامة دولة ديمقراطية بالقول: (إننا ندين كل الجرائم التي ارتكبت ضد اليهود وكل أنواع التمييز الصريح والمقنع الذي عانى منه معتنقو اليهودية)، ولكنه أوضح في الوقت نفسه الصعوبات التي تواجه تحقيق هذا الهدف الذي يبقى كحلم بعيد المنال، حيث استطرد قائلا: (لماذا لا أحلم يا سيدي الرئيس، وآمل والثورة هي صناعة تحقيق الأحلام والآمال، فلنعمل معا على تحقيق الحلم في أن أعود مع شعبي من منفاي لأعيش مع هذا المناضل اليهودي ورفاقه، ومع هذا المناضل الراهب المسيحي وإخوانه، في ظل دولة واحدة ديمقراطية يعيش فيها المسيحي والمسلم واليهودي في كنف المساواة والعدل والإخاء).

بعد جدال داخل صفوف الثورة الفلسطينية استطاعت حركة فتح وبدعم من القوى الفلسطينية، أن تدمج شعار فلسطين الديمقراطية ضمن قرارات المجالس الوطنية الفلسطينية ويصبح بالتالي هدفا استراتيجيا للثورة الفلسطينية، ولكن إلى حين.


ثانيا: من الدولة الديمقراطية إلى سياسة المرحلية (السلطة المقاتلة)

إذا كانت هزيمة 1967 العربية أعطت دفعة لاستراتيجية الكفاح المسلح ومنحت الثورة الفلسطينية الصاعدة الثقة بالنفس وباستراتيجيتها الكفاحية، فإن حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 عملت على إفقاد الثورة الفلسطينية شيئا من الثقة بقدرتها على تحرير كامل فلسطين من خلال استراتيجية الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية، وأيضا قدرة النظام العربي الرسمي والشعبي على ذلك، وفي الوقت نفسه جعلت هذه الحرب الأنظمة العربية أكثر واقعية في نظرتها للصراع مع إسرائيل، حيث أخذت تعمل على استغلال (انتصارها) في تشرين الأول (أكتوبر) 1973 لفك ارتباطها القومي بمفهومه التقليدي بالقضية الفلسطينية والتخلي عن مسؤوليتها الرسمية التي تعني في المفهوم الشعبي تحرير فلسطين، سواء من خلال التوجه مباشرة نحو الحل السلمي مع إسرائيل كما حدث مع مصر، أو بطريقة غير مباشرة، من خلال تهميش دور وفعالية الثورة الفلسطينية، وإفقادها القدرة على التفرد بالتعامل مع الصراع مع إسرائيل، ومحاولة إلحاقها بالاستراتيجية الرسمية العربية، تمهيدا للدخول بتسوية تحت الوصاية العربية، كما حدث مع سوريا واصطدامها مع الثورة الفلسطينية في لبنان.

وهكذا استبقت حركة فتح ما كانت تعتقد أنه آت ويُخطط له، وتحركت مباشرة وقبل أن تبرد فوهات البنادق على مستويين: الأول تجنب محاولات تهميش منظمة التحرير ومحاصرتها محليا وعالميا، وذلك بالعمل على تعزيز وجودها في لبنان وربط علاقات متينة مع الحركة الوطنية اللبنانية التي لم تكن علاقاتها طيبة مع سوريا، ومن جهة أخرى تليين مواقفها السياسية أو تغيير خطابها السياسي وذلك بإرسال رسائل علنية وسرية تعبر عن استعدادها لأنصاف الحلول وذلك من خلال ما سمي بسياسة المراحل أو المرحلية التي أُعلن عنها في البرنامج المرحلي عام 1974.[6]

بالرغم من أن الحديث عن مرحلة أهداف النضال الفلسطيني، فرض نفسه بصورة جدية إثر حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 وما تمخض عنها من تطورات عسكرية وسياسية ونفسية كما سبقت الإشارة، فإن المكون الفلسطيني في نهج المرحلية النضالية كان حاضرا قبل 1973، والمتمثل بالإحساس بالبون الشاسع ما بين الإمكانيات الفلسطينية وبين الأهداف الاستراتيجية للثورة الفلسطينية. ويبدو أن فكرة القبول بإقامة دولة فلسطينية على جزء من فلسطين، كانت تمثل قناعة لدى بعض قيادات حركة فتح حتى قبل حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، وما حرب أكتوبر إلا الفرصة التي اهتُبلت لتظهر هذه القناعة، فالمكون العربي في القبول بالمرحلية كان الحافز للمكون الفلسطيني ليعبر عن نفسه مكرها للحفاظ على الهوية.

انتقد القائد الفتحاوي أبو إياد، قادة الحركة الوطنية الفلسطينية السابقين لعدم قبولهم بإقامة دولة فلسطينية كما نص على ذلك قرار التقسيم لعام 1947، معتبرا أن الرفض العربي السابق للحلول الوسط نوع من السلبية والمزايدة، وأن الرفض قد يكون طريقة للهروب من المشاكل والتزيي بزي النقاء العقائدي، كما يعترف أن فاروق قدومي قدم للجنة المركزية لحركة فتح بعد حرب حزيران (يونيو)1967  مباشرة تقريرا يقترح فيه القبول بتأييد قيام دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة إذا أعادتهما إسرائيل للعرب، إلا أنه لم يتم البت في الموضوع آنذاك.[7]

دافع أبو إياد عن المرحلية باعتبارها سياسة واقعية تنطلق من الأخذ بعين الاعتبار موازين القوى، وتطور الأحداث والابتعاد عن الرومانسية وإن كانت رومانسية ثورية، ويعطي أبو إياد أهمية لمحدودية العمل الفدائي، ومقدرته على تحقيق الأهداف الاستراتيجية ويرى: (أنه كائنا ما كانت انطلاقة وبأس حرب العصابات ضد الدولة الصهيونية، فإنها تظل في المستقبل المنظور دولة لا تُقهر، ولهذا فإن عدم توقع المرور بمراحل مؤدية إلى الهدف الاستراتيجي الذي هو إقامة دولة ديمقراطية على كامل فلسطين أمر من قبيل الوهم والخيال).[8]

وفي نفس سياق تبرير أبو إياد للمرحلية ودفاعه عنها، فإنه يرى أن إقامة سلطة وطنية فلسطينية تشكل ضربة قاصمة للأيديولوجية الصهيونية القائمة على رفض وجود الشعب الفلسطيني، لأن الإقرار بهذه السلطة الوطنية الفلسطينية معناه الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني، ووجود شعب فلسطيني يشكك في مصداقية مجمل الأيديولوجية الصهيونية، بالإضافة إلى هذا فإن امتلاك الفلسطينيين لأية بقعة محررة سيتيح لهم مجالات ومتنفسا لتنشق نسمة الحرية والابتعاد عن أدوات القمع والوصاية العربية، ذلك أن العيش في الغربة والشتات على الشعب الفلسطيني لا يقل خطورة عن فقدان الأرض، ويعبر أبو إياد عن دهشته لرفض أطراف فلسطينية لمرحلية النضال، ففي خطاب وجهه لسكان مخيم تل الزعتر في لبنان، عندما كانت قضية السلطة المرحلية موضع بحث، وكان سكان المخيم يرفضونها قال: (منذ خمسة وعشرين سنة وأنتم تعيشون في المنفى، إنها خمسة وعشرون سنة من الإحباطات والمذلات والحرمان، ولكنكم تواصلون رفضكم لكل حل بالتسوية حتى ولو كان مؤقتا، أليس إنه من العجيب الخارق أنكم تفضلون العيش في أرض غريبة على الإقامة في منطقة محررة من وطنكم الأصلي؟).[9]

لقد تأكد فيما بعد أن الأخذ بسياسة المرحلية لم يكن مجرد مناورة أو تكتيك كما حاول البعض تصويرها، بل كانت تعبيراً عن استعداد حقيقي للتعامل مع نهج التسوية السياسية، ذلك أن مقررات المجلس الوطني الفلسطيني اللاحقة بدلا من اتخاذ مواقف متصلبة بعد افتضاح حقيقة المواقف الأمريكية الإسرائيلية وسراب التسوية الذي انكشف، بدلا من ذلك، انساقت وراء تقديم مزيد من التنازلات وتخلت عن كثير من الشروط التي وضعتها للهدف المرحلي- السلطة الوطنية المقاتلة – بل إنها لم تعد تَقرن الهدف المرحلي بالهدف الاستراتيجي باعتبار الأول قاعدة ارتكاز نحو الوصول للثاني، وفيما بعد حذفت كلمة مرحلية عند الحديث عن الهدف الفلسطيني الذي أصبح “إقامة دولة فلسطينية مستقلة” وهذا ما ظهر جليا في مقررات المجالس الوطنية ابتداء من الدورة الثالثة عشر، فالفقرة الحادية عشرة من البيان السياسي لتلك الدورة دعت لمواصلة النضال الفلسطيني: (من أجل استعادة الحقوق الوطنية لشعبنا وفي مقدمتها حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته الوطنية المستقلة فوق ترابه الوطني).

ثالثا: البحث عن دولة فلسطينية في إطار قرارات الشرعية الدولية السابقة .

بعد خروج قوات حركة فتح ومنظمة التحرير من بيروت عام 1982 واستعداد العرب للدخول في نهج التسوية السياسية بعد توقيع اتفاق كامب ديفيد ثم طرح الأمير السعودي فهد لمبادرته في قمة فاس 1983، توالت التصريحات المطاطة والمبهمة من قيادات حركة فتح ومنظمة التحرير، والتي تتضمن استعدادا للاعتراف بإسرائيل مقابل دولة فلسطينية على جزء من التراب الفلسطيني كهدف نهائي للنضال الفلسطيني، وهو الأمر الذي يستشف من قرارات المجلس الوطني الفلسطيني في عمان والذي تحفظت عليه فصائل فلسطينية متعددة- وقد سبق أن أشرنا لهذا المؤتمر- الذي اعتبر حقوق الشعب الفلسطيني منحصرة في حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، واعتبر: (إن الإطار المناسب للوصول إلى هذا الحل هو عقد مؤتمر دولي تحت راية الأمم المتحدة وعبر مجلس الأمن بمشاركة كافة الأطراف المعنية).

كان الإعلان في الجزائر 1988 عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وما تضمنه من اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بقرارات الأمم المتحدة وبالتالي الاعتراف بإسرائيل، منعطفا مهما في فكر حركة فتح ونهجها النضالي، ويمكن القول إن كل ما تبع ذلك بني على بيان إعلان الدولة في الجزائر أو تم تبريره بهذا الإعلان.

بيان إعلان الاستقلال وجد استجابة مرحبة ولكن حذرة ومشككة من الولايات المتحدة التي بدأت اتصالات سرية وعلنية شاقة مع المنظمة وعبر وسطاء متعددين، كان الهدف منها أن تعترف المنظمة بوضوح بالشروط الأمريكية -الاعتراف بالقرارين 242 و338 تحديدا، ونبذ الإرهاب والاعتراف بإسرائيل بشكل واضح -حيث اعتبرت أمريكا أن إعلان الاستقلال في الجزائر كان مبهما من حيث تحديد المرجعية القانونية الدولية وبالتالي على المنظمة توضيح كثير من الأمور.[10]

إن المدقق في صياغة بيان الاستقلال سيلاحظ أن الاعتراف بالشرعية الدولية لم يقطع نهائيا مع الشرعية التاريخية ولا الشرعية الثورية بل كان إضافة إليهما. إلا أن هذا الاعتراف المشروط بقرارات الشرعية الدولية لم يكن كافيا بالنسبة للولايات المتحدة التي وضعت شروطا حتى تفتح حوارا مع منظمة التحرير، وعليه طلبت واشنطن من المنظمة أن تكون أكثر تحديدا فيما يتعلق بالاعتراف بإسرائيل وبنبذ العنف. بالفعل عقد الرئيس الفلسطيني مؤتمراً صحافياً يوم 14/12/1988 في جنيف أعلن فيه القبول بالشروط الأمريكية، وبعد ساعات أعلنت الحكومة الأمريكية بدء حوار سياسي مع منظمة التحرير الفلسطينية.

كان التوجه الفلسطيني نحو التسوية السياسية على قاعدة الشرعية الدولية توجها لا يخلو من مخاطرة، وإذ كانت الانتفاضة الأولى من العناصر المستجدة الدافعة نحو هذا التوجه فإن قرار الأردن بفك الارتباط مع الضفة الغربية يوم 30/7/88 عزز هذا النهج حيث وجدت منظمة التحرير الفلسطينية نفسها المخاطَب الوحيد بالشأن الفلسطيني.

ويبدو أن التحولات الدولية التي كانت تلوح في الأفق والضغوط العربية والدولية المكثفة على الرئيس أبو عمار، ومحاولة أمريكا وإسرائيل استخدام الرفض الفلسطيني لقرارات الشرعية الدولية للقول إن الفلسطينيين لا يريدون السلام وما زالوا يهدفون إلى القضاء على إسرائيل، كل ذلك كان من مسرعات هذا التوجه الفلسطيني الجديد، وفي هذا السياق يقول القائد الفتحاوي صلاح خلف -أبو إياد- موضحا: (إن التصريح السياسي الصادر عن المجلس الوطني في دورته التاسعة عشرة في الجزائر يشكل جوابا على سلسلة المشاكل التي يثيرها في وجهنا الأمريكيون والإسرائيليون، وتتخذها كذلك بعض الدول الأوروبية كذريعة لعدم التقدم أكثر إلى الأمام في علاقاتهم معنا…) وهو بعد أن يبين خطأ القادة السابقين للحركة الوطنية الفلسطينية لرفضهم الشرعية الدولية يدافع عن الموقف الجديد للمنظمة قائلا: (إن الشرعية الدولية توفر حقا يمكن استخدامه عندما تدعو الحاجة إليه، وهذا ما فعله المجلس الوطني في تشرين الثاني (نوفمبر) 1988 حيث تم اعتماد مقررات الأمم المتحدة بشأن القضية الفلسطينية منذ 1947 إلى يومنا هذا).

اعتبر أبو إياد أن مقررات الجزائر بمثابة آلية للبرنامج المرحلي للمنظمة الذي تم إقراره عام 1974: (إن مقررات المجلس الوطني في دورة الانتفاضة في مستوى معين جاءت تطويرا في الموقف الفلسطيني الذي أقره البرنامج المرحلي منذ أربعة عشر عاما، لقد بقي هذا البرنامج طيلة السنوات الماضية دون تطوير ودون آلية فجاءت هذه الدورة لتدفع به الحياة ولتنظم آلية التحرك، حيث اعترفت لأول مرة بالشرعية الدولية مجسدة بقرارات محددة، فاستندت في إعلان الاستقلال إلى الشرعية الدولية، وبالتحديد إلى القرار 181 كما استندت في البيان السياسي لكل ما يتطلبه المجتمع الدولي أساسا لانعقاد المؤتمر الدولي، وهما القراران 242 و338.

في الوقت الذي كانت فيه حركة فتح -ومعها منظمة التحرير- تعتقد أنها تقدم تنازلات باعترافها بقرارات الشرعية الدولية، كانت الولايات المتحدة وإسرائيل تعتبران أن ما يجري هو اعتراف بالأمر الواقع واستسلاما لإرادة الأقوى وخصوصا وهما يراقبان الوضع العربي الرديء ويدركان حقيقة الوضع الفلسطيني. وعليه لم تُقنِع التنازلات الفلسطينية الولايات المتحدة تماما، وكان مطلوباً من الدبلوماسيين الأمريكيين ممارسة أقصى درجات الابتزاز مع شيء من التهديد ضد الفلسطينيين ليقبلوا بوضوح وبدون تردد وبدون شروط بالقرار 242 كمرجعية لأي مفاوضات مستقبلية، وبدأت تكر سبحة التنازلات الفلسطينية بمباركة إن لم يكن بدعم وضغط وإكراه عربي.

مباشرة بعد دورة الجزائر دشنت المنظمة حملة دبلوماسية توجهت أساسا إلى أمريكا وأوروبا هدفها كسب تأييد دولي للمطلب الفلسطيني بإقامة دولة مستقلة وعقد مؤتمر دولي للسلام. وفي إستكهولم 7/12/88 وضع أبو عمار النقاط على الحروف بالنسبة لكثير من النقاط التي وردت في إعلان الدولة، حيث اعترف بوضوح بدولة إسرائيل وأعلن رفضه وتنديده للإرهاب وتسوية الصراع في إطار مؤتمر دولي يعقد تحت إشراف الأمم المتحدة وعلى أساس قراري الأمم المتحدة 242 و338 وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.

لم تقتنع الإدارة الأمريكية بما ورد في مشروع السلام الفلسطيني، معتبرة أن الخطاب كان عاما جدا ولم يلتزم بدقة بالشروط الأمريكية، ولم يهدأ بال الأمريكيين إلا بعد أن قرأ أبو عمار بياناً في المؤتمر الصحافي الذي عقده في اليوم الموالي 14/12 من نفس العام يلبي الشروط الأمريكية، ومما جاء فيه: (إن رغبتنا في السلام استراتيجية وليس تكتيكا، إننا مصممون على تحقيق السلام مهما كانت النتائج، إن تقرير المصير بالنسبة للفلسطينيين يعني البقاء، وإن البقاء الفلسطيني لا يهدد البقاء الإسرائيلي، إن إقامة الدولة تعني الخلاص للشعب الفلسطيني والسلام للفلسطينيين والإسرائيليين)، وبعد ساعات بدأ الحوار الفلسطيني الأمريكي.

وتأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، حيث شهد عام 1990 أحداثا ضربت بالصميم كل مراهنة فلسطينية على تسوية مشرفة تكون الانتفاضة وما تبقى من تضامن عربي أهم أوراق القوة التي تدعم المفاوض الفلسطيني، أحداث بدأت بانهيار الحكومة الائتلافية في إسرائيل 16/3/90 وتلاها توقف الحوار الأمريكي الفلسطيني في 20/6/90، ثم بداية انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، إلا أن الزلزال الأكثر هولا الذي زلزل المنطقة وأثر سلبا على القضية الفلسطينية وما يزال هو حرب الخليج الثانية التي اندلعت على أثر الغزو العراقي للكويت في الثاني من آب (أغسطس) 90، هذه الحرب التي أحيت مجددا تفاعلات التسوية السلمية ولكن في عالم متغير، فالعالم بعد حرب الخليج ليس هو ما قبله.

ضمن هذا السياق تم توقيع اتفاق أوسلو في تشرين الأول (أكتوبر) 1993 ثم قيام السلطة الفلسطينية، وبقيامها انتقلت حركة فتح ومعها الثورة الفلسطينية إلى مرحلة جديدة وهي المراهنة على السلطة الفلسطينية لتكون قاعدة ومنطلقا للوصول إلى الدولة المنشودة.

المحور الثاني:-

حركة فتح ما بعد قيام سلطة الحكم الذاتي: علاقة ملتبسة

مع دخول منظمة التحرير وبالتالي حركة فتح نهج التسوية انتاب فكر الحركة وتنظيمها غموض وإرباك، وتفاقم الأمر مع غياب القيادات التاريخية تدريجيا، وبدأ الانفصال بين فتح الفكرة وفتح التنظيم يتزايد كلما تورطت فتح أكثر بالسلطة .

يمكن القول إن العلاقة بين حركة فتح وسلطة الحكم الذاتي مرت بعدة مراحل:

المرحلة الأولى: محاولة التوفيق بين الشرعية الثورية واستحقاقات التسوية

لأن توقيع اتفاقية أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية بقيادة حركة فتح لم يكن انتقالا كاملا من الثورة إلى الدولة، بل دخول مرحلة وسيطة، وإن كانت حركة فتح تراهن على أن تؤسس هذه المرحلة للدولة إلا أن استحقاقات التسوية والسلطة كانت تشكل عائقا أمام ما تريده وتسعى إليه فتح.

قبل السلطة كانت الحركة تستمد شرعيتها من فكر ومنطلقات وممارسات الثورة والتحرير (شرعية ثورية) وبعد السلطة كان مطلوباً أن تتعامل الحركة مع شرعية جديدة فرضتها اتفاقية أوسلو وهي الشرعية الدستورية أو الانتخابية وشرعية الاتفاقات الموقعة والالتزام بها، وكانت الإشكالية تكمن في التوفيق بين الشرعيتين.

في هذه المرحلة جرت محاولات لتمرير مفاهيم مغلوطة بهدف تغيير طبيعة الحركة وبنيتها التنظيمية ووظيفتها، كالقول بأن فتح تخلت عن الأهداف الوطنية لأنها قبلت بمبدأ التسوية وبالشرعية الدولية، مع أنه وبالرجوع للمنطلقات الأولى للحركة وكما أوضحنا أعلاه، كانت الحركة ترمي منذ البداية لإقامة دولة في الضفة وغزة، وكانت تدرك تماما صعوبة إنجاز هدف التحرير الكامل، وبالتالي فإن نهج التسوية ليس هو الخطأ بل الخلل في طريقة إدارة المفاوضات وفي مَن وظفوا التسوية والسلطة لأغراض خاصة.

كان الرئيس أبو عمار وغالبية قيادة فتح وقواعدها ينظرون إلى عودتهم إلى أرض الوطن وتأسيس سلطة وطنية، حتى بشروط أوسلو، بأنها فرصة يمكن توظيفها لإجهاض محاولات شطب منظمة التحرير وإلغاء القضية الوطنية. لم يكن الأمر مقتصرا على قيادة فتح ومنظمة التحرير بل إن قطاعا لا يستهان به من الفلسطينيين نظر لقيام السلطة كمنجز وطني يمكن المراهنة عليه لتخفيف وطأة الاحتلال.

فلسنوات كان الشعب الفلسطيني يخضع لسلطة غير فلسطينية، سلطة حكم عربي أو سلطة احتلال صهيوني، وفي كلتا الحالتين -مع وجود فارق بطبيعة الحال ما بين السلطتين- لم يشعر الفلسطيني أنه يخضع لسلطة وطنية تعبر عن طموحاته وآماله، ولم يشعر أن من هم في السلطة منه وإليه. ففي البلاد العربية كان وضع الفلسطيني في أفضل الحالات، وضع مواطن من درجة ثانية، وفي فلسطين المحتلة لم يعرف الفلسطيني إلا سلطة احتلال وقوانين احتلال ومؤسسات تخدم الاحتلال، وكل رمز من رموز السلطة يذكره بأنه خاضع للاحتلال وأنه غير مرغوب فيه، ولأن السلطة القائمة في الدولة حيث يعيش الفلسطيني تعرف حب الفلسطيني لوطنه وأنه لا يقبل عن فلسطين بديلا وأنه يرفض الخضوع والذل، فقد تعاملت بحذر أو بمعاداة مع الفلسطيني وكانت دائما تضعه موضع الشك والاتهام حتى بالنسبة لأولئك الفلسطينيين الذين عبروا عن كامل آيات الولاء للدولة التي يعيشون فيها وحملوا جنسيتها.

كانت السلطة غير الفلسطينية حيث يعيش الفلسطينيون حذرة في التعامل معهم، وكانت تحرض مواطنيها عليهم بالعلن وبالسر، وإن توفر حسن النية عند السلطة كانت فئات من المواطنين (الأصليين) ترفض أن يتساوى الفلسطينيون معهم ويقاسموهم خيرات البلاد. وعليه كان الفلسطيني يأخذ في كثير من الحالات موقفا معاديا من السلطة وكل ما ترمز إليه، موقفا فكريا وموقفا ممارساتيا.

في هذه المرحلة عمل الرئيس أبو عمار وحركة فتح على التحايل على بنود اتفاق أوسلو بقدر المستطاع. المجلس المنصوص عليه في اتفاق أوسلو أصبح مجلسا تشريعيا، ومجلس الإدارة تحول لوزارات ممتدة فروعها إلى كل مناطق الضفة وغزة، وكان المطار ومشروع بناء ميناء في غزة، وتم وضع نظام تعليم فلسطيني لأول مرة في التاريخ، وقانون أساسي فلسطيني، وتشريعات في مختلف المجالات، كما نسجت السلطة علاقات دبلوماسية مع عديد من دول العالم واستقبلت ممثلين وسفراء أقاموا في بعثات دبلوماسية في قطاع غزة الخ.

ولكن إسرائيل كانت تقف بالمرصاد لكل محاولة فلسطينية للخروج على بنود اتفاق أوسلو أو تغيير الأمر الواقع الذي فرضته طوال سنوات الاحتلال. لجأت إسرائيل لوسائل متعددة لإحباط الجهود الفلسطينية الصادقة لإقامة سلطة وطنية حقيقية تهيء الأرضية المؤسساتية للدولة، وكان من ضمن هذه الوسائل إفساد السلطة وإفساد قيادات في حركة فتح بالمال والمناصب، بالإضافة إلى استغلال إسرائيل ما تقوم به القوى السياسية المعارضة لحركة فتح وللسلطة –خصوصا حركة حماس- من عمليات لتقوم بتدمير ما تبنيه السلطة من مؤسسات ولاستنزاف الاقتصاد الفلسطيني.

مع تولي حركة فتح للسلطة وجريان المال بيد عناصرها وقياداتها، وبسبب ضعف الرقابة المالية في بداية السلطة تشكلت نخبة داخل حركة فتح اغتنت من أموال السلطة وتصرفت بما يتعارض مع قيم حركة فتح ومع المصلحة الوطنية، وأصبح هناك فتح/السلطة بالإضافة لفتح الفكرة الوطنية. فتح السلطة أثرت سلبا على التنظيم والفكرة، وقد تمكنت إسرائيل من دعم وتقوية بعض العناصر والقيادات داخل فتح السلطة الذين عملوا على إضعاف التنظيم والفكرة لصالح السلطة، وأصبحت فتح بالنسبة لكثير من المنتمين الجدد تعني الوظيفة والمصلحة، وجرت محاولات لاستغلال وتوظيف التاريخ النضالي للحركة لشرعنة قيادات جديدة ونخب سياسية جديدة منسلخة عن فتح وقيمها ومنطلقاتها الأولى.

المرحلة الثانية: الصراع على وظيفة السلطة ومنافعها

يمكن التأريخ لهذه المرحلة عندما قرر أبو عمار غض النظر عن ممارسة حركة فتح والجماعات الفلسطينية الأخرى للعمل العسكري، بعدما تأكد في قمة كامب ديفيد 2000 بأن إسرائيل وواشنطن غير جادتين بالتسوية، وتأكد هذا التوجه الإسرائيلي بعد عملية السور الواقي 2002. هذا التوجه عند ياسر عرفات وأغلبية من اللجنة المركزية لم يجد استحسانا من تيار فتحاوي ارتبط بالتسوية وظيفيا وماليا وفكريا، وهو تيار وإن وجد دعما وتشجيعا أمريكيا وإسرائيليا إلا أنه كان ينطلق من رؤية سياسية تجد قبولا عند قطاع من الشعب ممن ارتبطوا وظيفيا برموز هذا التيار ومن فئة من المثقفين ورجال الأعمال والمال.

مفاد هذه الرؤية أن الفلسطينيين جربوا الخيار العسكري في ظل ظروف محلية وإقليمية ودولية مواتية أكثر من الظروف الراهنة ولم يحققوا أهدافهم الوطنية، وبالتالي يجب عدم زج الشعب مجددا بدوامة العمل العسكري.

للمفارقة وما يثير التساؤل أن بعض من تولى السلطة من قيادات الحركة من الملتزمين بالتسوية ونهج السلام، لجأوا لخلق ميليشيات عسكرية بل والسماح لها بالقيام بعمليات عسكرية ضد الإسرائيليين، وإن كان الهدف الظاهر من وراء خلق هذه الميليشيات هو سحب البساط من تحت أقدام حركة حماس أكثر مما كان ارتداداً نحو استراتيجية الكفاح المسلح، إلا أن هذه الميليشيات أصبحت عبئا على التنظيم، حيث استغلتها بعض القيادات لمواجهة قيادات أخرى أو لفرض هيمنها على الحركة، وعبئا على القضية الوطنية عندما أدت ممارسة هذه الميليشيات لمزيد من الانفلات الأمني الذي مهد لإضعاف فتح والسلطة ومهد الطريق لسيطرة حركة حماس وفصل غزة عن الضفة.

في هذه المرحلة أيضا ظهرت بوادر الصراع ما بين مَن يُطلق عليهم أسم الحرس القديم (اللجنة المركزية ومن يدور في فلكها وعلى رأسها الرئيس أبو عمار)، ومَن ينعتون بالحرس الجديد من جهة أخرى. هذا الانقسام كان يعكس أيضا تباينا في المواقف والنظر للأمور ما بين الخارج والداخل، فالحرس القديم هم الذين أتوا من الخارج أو (جماعة تونس)، والحرس الجديد هم شباب الداخل وخريجو السجون وكان غالبيتهم متمركزين في الأجهزة الأمنية وخصوصا جهاز الأمن الوقائي. إلا أن هذه التباينات أو بدايات الانشقاق المستتر لم تتبلور على أسس أيديولوجية أو سياسية وطنية، فكلا الطرفين مع التسوية والحل السلمي ومع اتفاق أوسلو، بل كان صراعا مستترا على المراكز والمناصب والصلاحيات.

في هذه المرحلة اقتصر الصراع على الداخل حيث كان حضور وفاعلية قيادات الخارج وخصوصا (جماعة أبو اللطف) ضعيفا وكان أكثر ما تطمح إليه تلك الجماعة استمرار الدعم المالي لعناصر وقيادات الحركة في الخارج والحفاظ على وجود المنظمة كخط رجعة في حالة فشل مشروع التسوية، وهو الخلاف الذي تجلى فيمن يتولى الشؤون الخارجية، هل هي وزارة خارجية السلطة أم الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

لم يكن من السهل على حركة فتح العودة مجددا لمنطلقاتها الأولى كحركة تحرر وطني تمارس استراتيجية الكفاح المسلح، فالكفاح المسلح أو المقاومة ليس سلاحا فقط بل ثقافة ومنهج حياة كذلك. فمع تأسيس السلطة تم تحويل آلاف المقاتلين (الفدائيين) إلى موظفين في مؤسسات السلطة الوطنية ويتلقون راتبا منها، وهو راتب مقابل الالتزام بنهج السلطة السلمي والتفاوضي. وهذا الانتقال أنتج ثقافة جديدة، ثقافة مدنية مسالمة، وعلاقات إنتاج وشبكات مصالح لقيادات في حركة فتح. وعليه ارتبطت حياة كثيرين من عناصر وقيادات حركة فتح بالسلطة وراتبها وامتيازاتها، وبات من الصعب على هؤلاء التخلي عن الراتب والامتيازات والعودة للثورة.

بعد تولي أبو مازن لمهامه كرئيس وزراء تعرض لانتقادات شديدة من اللجنة المركزية لحركة فتح كان أهمها في اجتماع للجنة المركزية مطلع تموز (يوليو) 2003م حيث انصبت الانتقادات على أسلوب تعاطيه السياسي والأمني مع ملف المفاوضات وكيفية تعامله مع حكومة شارون التي تستبيح الأرض وتحاصر الرئيس أبو عمار.[11]

إن كانت هذه الخلافات التي ظهرت للعلن وقسمت القاعدة الفتحاوية بشكل ملحوظ، لم تؤد لإحداث عملية انشقاق تنظيمي، إلا أنها عززت من انعدام الثقة ما بين (العرفاتيين) النافذين المدعومين من جمهور فلسطيني ومن قوى المعارضة الإسلامية المتعاطفة معهم والمتخوفة من نهج الحرس الجديد ومن التوجهات السياسية لحكومة أبو مازن.

الخلاف بين التيار (العرفاتي) والتيار (العباسي) عكس خلافا بين نهجين داخل حركة فتح كما سبقت الإشارة. وكان لا بد من حسم الأمر لصالح أحدهما، وهو حسم وإن بدا ممكنا في تشرين الأول (أكتوبر) 2003 عندما قدم أبو مازن استقالته من منصب رئيس الوزراء بعد أن حاصره التيار الأول في المجلس التشريعي وفي الإعلام، إلا أن الأمور عادت مجددا لصالح تيار أبو مازن بعد وفاة الرئيس أبو عمار في تشرين الثاني (نوفمبر) 2004.

المرحلة الثالثة: ما بعد أبو عمار وما قبل الهزيمة في الانتخابات

بعد رحيل أبو عمار توافقت التيارات الفتحاوية على ترشيح أبو مازن للرئاسة، إلا أن التوافق على شخص الرئيس لم يكن بالضرورة تعبيرا عن وحدة وتماسك الحركة، فوحدة الحركة أثناء الانتخابات الرئاسية 2005 كان ظرفياً وبراغماتياً، حيث طفت الخلافات داخل الحركة على السطح ووصلت ذروتها قبيل الانتخابات التشريعية العامة في كانون الثاني (يناير) 2006. فقبيل الانتخابات تقدمت فتح بقائمتين انتخابيتين، واحدة تمثل غالبية القيادة التقليدية وخصوصا اللجنة المركزية، والأخرى تمثل من يسمون بالحرس الجديد ويتزعمها فعليا محمد دحلان عضو المجلس الثوري ومستشار الأمن القومي للرئيس أبو مازن، وفي واقع الأمر فقد جرت محاولة لتوظيف الانتخابات لإحداث انقلاب داخل فتح فيما لو نجحت قائمة الحرس الجديد.

كان أخطر ما ميز هذه المرحلة من التصدع داخل فتح هو لجوء القيادات الفتحاوية للاستقطاب العسكري بدلا من الاستقطاب السياسي، فانتشرت الجماعات المسلحة بتسميات متعددة وإن كانت كتائب شهداء الأقصى هي أكبر هذه الجماعات ويمكن اعتبارها بديلا عن قوات العاصفة التي كانت الذراع العسكري لفتح قبل التسوية، ولكن ضمن حدود جغرافية ورؤية سياسية لا تتعدى سقف تفاهمات التسوية والرؤية السياسية للسلطة، إلا أن حالات عسكرية كثيرة أثارت كثيرا من التساؤلات حول مصادر تمويلها ومرجعيتها وأهدافها السياسية والعسكرية. حيث تم توظيف هذه الجماعات لاحقا من طرف الأقطاب السياسية المتصارعة في فتح بعد أن ضعفت المبررات السياسية والأيديولوجية للاستقطاب.

لأن أقطاب فتح كانت بحاجة لهذه الجماعات ليس بطبيعة الحال لمحاربة إسرائيل وربح رهان الحسم العسكري معها بل لتوظيفها في فرض نفوذها داخل مناطق السلطة كل قطب في مواجهة منافسيه وجميعهم في مواجهة تنامي نفوذ حركة حماس، فقد أصبحت هذه الحالات العسكرية أهم ورقة يمكن توظيفها لمن يريد الحسم داخل حركة فتح بالإضافة إلى التسابق على كسب ولاء عناصر الأجهزة الأمنية والاتحادات الشعبية خصوصا الشبيبة الفتحاوية.

المرحلة الرابعة: ما بعد الهزيمة والاستنهاض الُمعاق

هزيمة فتح في الانتخابات التشريعية يوم 25 كانون الثاني (يناير) 2006 ثم تشكيل حركة حماس للحكومة وما تبع ذلك من حصار وتأزم للنظام السياسي، كانت فرصة مساعدة لإعادة التفكير الجاد باستنهاض الحركة. شهدت قواعد حركة فتح جدلا أخذ طابع النقد والنقد الذاتي، وبالرغم من خروج الجدل أحيانا عن قواعد الحوار البناء، إلا أنه أوصل قناعة لدى الجميع بأن الكل يتحمل مسؤولية ما جرى من منطلق أن الأضرار مست الجميع. وعليه لمسنا حراكا لإعادة الاعتبار لحركة فتح إلا أن مدخلات عملية الاستنهاض في هذه المرحلة وهو الإحساس بالخطر المشترك لم ينتج عنها مخرجات في المستوى المطلوب حيث كان المال واستعراض القوة المسلحة والتشكيك المتبادل الوجه الغالب لعملية الاستنهاض.

تم إجراء انتخابات للمناطق والأقاليم تمهيدا للمؤتمر العام، وفي الوقت نفسه قام الرئيس أبو مازن بتشكيل قيادة الوطن وقيادات الساحة، الأمر الذي استفز التيار الأول بما فيه اللجنة المركزية التي اتهمت الرئيس أبو مازن باللجوء للتعيين دون الرجوع للهيئات القيادية العليا، وأن غالبية من تم تعيينهم ينتمون لتيار محدد وهو الذي يقوده محمد دحلان. مع أن تعيين أبو مازن لعضو اللجنة المركزية أبو علاء مسؤولاً عن التعبئة والتنظيم كان محاولة لرأب الصدع، إلا أن الحذر والشك بقي سيد الموقف بين الطرفين وخصوصا في قطاع غزة حيث كانت حالة من الاستقطاب واستعراض القوة بين تيار محمد دحلان وتيار أبو ماهر حلس ومن معه من قيادات في اللجنة المركزية.

في نهاية هذه المرحلة ظهرت قوة محمد دحلان وخصوصا في قطاع غزة، وأصبح من الواضح أن شهر العسل بينه وبين الرئيس أبو مازن يتجه نحو حالة عداء وصدام، وقد حدث الصدام والصراع بالفعل بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية ثم انقلابها على السلطة في حزيران (يونيو) 2007. أمر الرئيس أبو مازن بتشكيل لجنة لبحث ما جرى في غزة وأشار تقرير اللجنة بطريقة غير مباشرة بالمسؤولية عن هزيمة فتح السياسية ثم العسكرية لمحمد دحلان، ثم تصاعدت الخلافات بعد تقديم لوائح اتهام بالفساد ضد محمد دحلان، بل إن الرئيس أبو مازن وقيادات فتحاوية أشاروا لتورط دحلان في وفاة أبو عمار. وكان هذا الخلاف أكبر وأخطر تهديد لوحدة حركة فتح منذ الانشقاق الذي جرى عام 1983، وما زال الخلاف قائما حتى اليوم بالرغم من صدور قرار بفصل محمد دحلان من حركة فتح.

خامسا: التحديات الراهنة أمام فتح في علاقتها مع السلطة

  • رد الاعتبار للهوية والثقافة الوطنية

تراجع حركة فتح المعبرة عن المشروع والهوية الوطنية يعود لانخراطها بعملية تسوية من جانب وظهور جماعات الإسلام السياسي في فلسطين المستقوية بالمد الأصولي على مستوى الإقليم من جانب ثانٍ، ولكن وحيث أن التسوية المرتبطة باتفاقية أوسلو وصلت تقريبا لطريق مسدود، كما تراجع الإسلام السياسي في الإقليم مما أدى لتراجع قوة حركة حماس ومشروعها السياسي، فإن على حركة فتح اهتبال هذه اللحظة التاريخية لتعمل على استنهاض الحالة الوطنية الفلسطينية، وهي الأكثر تأهيلا لذلك.

  • فتح والتنسيق الأمني

يعتبر موضوع التنسيق الأمني مع إسرائيل أكثر القضايا إحراجا لحركة فتح وللرئيس أبو مازن كرئيس لفتح وللسلطة ولمنظمة التحرير، لأنه ثبت أن التنسيق الأمني يخدم الإسرائيليين وأمنهم أكثر مما يخدم أمن الفلسطينيين ومصالحهم، الأمر الذي دفع بعض المسؤولين في حركة فتح للتحدث علنا عن ضرورة إعادة النظر بالتنسيق الأمني، إلا أن تداخل ملف التنسيق الأمني مع الملفات الأخرى يدفع للقول بأن التهديد بوقف التنسيق الأمني يندرج في إطار امتصاص الغضب الشعبي أكثر مما هو تعبير عن إرادة حقيقية بوقفه حتى الآن.

كان التنسيق مفهوما عندما كانت العملية السلمية واعدة بتحقيق المطالب الفلسطينية أو على الأقل كانت إسرائيل ملتزمة بالاتفاقات الموقعة وبعملية السلام، أما اليوم وبعد تنصل إسرائيل من كل التزاماتها وبعد الحرب المعممة بأشكالها العسكرية والاستيطانية التي تخوضها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، وبعد تصريحات قادة إسرائيل بأن السلطة الفلسطينية غير شرعية وهجومهم على الرئيس أبو مازن والسلطة بعد التوجه لمحكمة الجنايات الدولية…، بعد كل ذلك لا يوجد مبرر لاستمرار التنسيق الأمني بالشكل الذي هو عليه. أن يستمر التنسيق الأمني مع استمرار الاستيطان والتهويد وأن يُنسب التنسيق الأمني وممارسات الأجهزة الأمنية لحركة فتح فهذا أمر يسئ للحركة وينزع عنها كينونتها الثورية التحررية.

  • قطع الطريق على محاولات فصل فتح الضفة عن فتح غزة.

نورد هنا إشارة تحذير دون أن نتوسع بالموضوع لخطورته وحساسيته. مرور الوقت على فصل غزة عن الضفة يحدث مفاعيله الانقسامية الخطيرة التي باتت تمس ليس فقط وحدة النظام السياسي بل أيضا المنظومة الاجتماعية والثقافية والنفسية كما أنه يؤثر على الوحدة الداخلية للأحزاب الفلسطينية. من تداعيات الانقسام أنه أثر على وحدة تنظيم حركة فتح وأوجد تمايزا ما بين واقع حركة فتح في الضفة وواقعها في قطاع غزة -وهذا ينسحب على بقية الفصائل والحركات- إلا أن الخطورة المستجدة تكمن في  انعكاس الخلافات داخل قيادة فتح على وحدة الحركة في الضفة وغزة ومحاولة البعض تصوير الخلافات الأخيرة بين مركزية حركة فتح والرئيس من جانب ومحمد دحلان وأنصاره من جانب آخر وكأنها بين فتح غزة وفتح الضفة.

الخلافات الأخيرة داخل حركة فتح حيث يبدو دحلان وكأنه يمثل فتحاويي غزة أو يُرَوِج لذلك، بالإضافة إلى واقع الانقسام بين الضفة وغزة وصعوبة التواصل وضبابية الرؤية السياسية وتسرب اليأس بالنسبة لسرعة إنهاء الانقسام، كلها أمور تثير تساؤلات عند أبناء فتح في قطاع غزة ذات طبيعة مختلفة عما هو مُثار في الساحات الأخرى وخصوصا في الضفة الغربية. وما يزيد الأمر تعقيدا مسلسل قطع رواتب موظفين بتهمة (التجنح) –موالاة محمد دحلان-، حيث غالبية المقطوعة رواتبهم من قطاع غزة وهو ما يثير تخوفات من أن يؤدي الأمر لفصل فتح غزة عن فتح الضفة، ويمنح حركة حماس الفرصة للعب على الخلافات الفتحاوية الداخلية، الأمر الذي يتطلب سرعة معالجة الأمر قبل استفحاله.

  • ضرورة استعادة الساحة الخارجية.

بسبب انشغال فتح بالتسوية وبالسلطة ثم بالانقسام والمفاوضات تم تجاهل وتهميش تنظيم حركة فتح في الأقاليم الخارجية، الأمر الذي ترك الساحة الخارجية حكرا على القوى السياسية المنافسة وخصوصا حركة حماس، بحيث بات من الصعب على سفير أو مسؤول من فتح أو المنظمة أن يتحدث في مهرجان شعبي أو في ندوة ويدافع عن نهج السلطة أو عن حركة فتح.

لا تكمن الخطورة بضعف التنظيم فقط، بل في تراجع الفكرة والفكر الوطني، وفقدان الثقة بالمنظمة وبحركة فتح، وقلة الشخصيات الصادقة في إيمانها بفكر حركة فتح قادرة على التواصل مع الجماهير الفلسطينية والعربية والأجنبية. ما ساعد على ذلك أن كثيرا من السفراء ومعتمدي الأقاليم تحولوا لموظفين كل همهم إرضاء السلطة والحكومة لضمان رواتبهم، كما أن الخلافات داخل اللجنة المركزية وبين بعض أعضائها وبين الرئيس انتقلت للخارج وزادت الأمر سوءا.

  • وضع برنامج سياسي يستوعب المتغيرات الوطنية والإقليمية الجديدة.

على حركة فتح الاعتراف بأن العالم يتغير والجغرافيا السياسية الفلسطينية تتغير والثقافة السياسية تتغير عندنا وفي محيطنا العربي والإسلامي، وأن تغيرا كبيرا طرأ على شبكة التحالفات من صداقات وعداوات، وبالتالي فإن زمن التفرد بالقرار وبالسلطة والتغني بأمجاد الماضي قد ولى، والمرحلة تتطلب أن تعمل حركة فتح استراتيجيا على إعادة صياغة وتطوير فكرها وفكرتها الوطنية حتى عندما يُسأل ابن فتح ما هي فتح يكون لديه إجابة غير الصمت أو القول بأنها أبو عمار أو أبو مازن أو الانطلاقة الأولى. وعلى المستوى الاستراتيجي الوطني العام على حركة فتح والقوى السياسية والمجتمعية العمل لإعادة بناء المشروع الوطني التحرري أخذا بعين الاعتبار المتغيرات المحيطة بنا، مشروعاً وطنياً تحررياً يجمع بين الالتزام بنهج السلام والعمل الدبلوماسي الخلاق من جانب والحفاظ على الحق بالمقاومة وروح المقاومة عند الشعب مع تطويع العمل العسكري بما يخدم الحراك السياسي ومشروع السلام الفلسطيني، ومن ناحية تكتيكية ومرحلية المطلوب عمل إبداعي لتشكيل حكومة وسلطة شراكة وطنية بين كل القوى السياسية تتعالى على واقع الانقسام وتتجاوز استحقاقات وشروط التسوية والرباعية ما دامت إسرائيل غير ملتزمة بهما وما دامت فلسطين اكتسبت صفة دولة مراقب في الأمم المتحدة.

  • ضرورة الانتقال من حزب سلطة حكم ذاتي إلى حزب الدولة

لأن حركة فتح صاحبة فكرة السلطة الوطنية منذ 1974 وهي التي تقود السلطة الوطنية اليوم من خلال الرئيس أبو مازن، وهي من طرح وتبنى فكرة الدولة منذ عام 1968 وبعدها، وهي التي تقود اليوم خيار الذهاب للأمم المتحدة لإنهاء الاحتلال وقيام الدولة المستقلة، لكل ذلك فإن حركة فتح عليها اتخاذ الخطوات العملية للانتقال من مرحلة سلطة الحكم الذاتي المقيدة باتفاق أوسلو إلى مرحلة الدولة، وهذا يتطلب استراتيجية مواجهة مع إسرائيل لفرض الدولة بما لا يتعارض مع الشرعية الدولية.

خاتمة:-

بعد خمسة عقود من تأسيس حركة فتح، وبعد أكثر من عقدين من تأسيس السلطة الوطنية بقيادة حركة فتح ومراهنة هذه الأخيرة على أن تكون السلطة رافعة المشروع الوطني الذي بشرت به الحركة، وبعد التوجه للأمم المتحدة والاعترافات المتوالية بالدولة الفلسطينية، من الضروري والمطلوب من حركة فتح أن تُعيد صياغة العلاقة بين الدولة والسلطة بما يجعل من الممكن توظيف ما تم إنجازه خلال عقدين من وجود السلطة لخدمة عملية الانتقال نحو الدولة.

فلا يُعقل أن تتحدث حركة فتح عن حل السلطة وفي نفس الوقت تناضل من أجل الدولة، والسلطة مكوِن رئيس من مكونات الدولة، فمَن يناضل من أجل الدولة عليه أن يتمسك بالسلطة ويناضل حتى تقوم بوظائفها كسلطة سيادية، وإلا فإن السعي للدولة سيصبح دون معنى ومجرد مضيعة للوقت أو إلهاء للشعب. تثبيت السلطة و تغيير وظائفها لتصبح وظائف سلطة دولاتية، خطوة مهمة وضرورية في معركة الدولة حتى وإن أدى الأمر للتصادم الميداني مع إسرائيل.

في ظل عدم تفعيل منظمة التحرير وضعف الحالة الحزبية، فإن التهديد بحل السلطة يعتبر مغامرة تعبر عن اليأس وليس خيارا وطنيا. ويجب لفت الانتباه أنه في الواقع الراهن فإن السلطة وبالرغم من كل عيوبها هي المؤسسة الوحيدة المنتشرة في كل ربوع الوطن وتربط أبناء الشعب في مؤسساتها المتعددة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية والتعليمية حتى وإن كان في إطار خدماتي.

الهوامش:-

[*] استاذ في العلوم السياسية، جامعة الازهر – غزة.

[1] -نشرة (فلسطيننا)، عدد 11، تشرين الثاني (نوفمبر) 1960، ص: 2.

[2]-وهي: 1-) في الميثاق القومي الفلسطيني 1964 جاء أن فلسطين ما بعد التحرير ستكون جزءا من دولة الوحدة العربية، 2- وفي الميثاق الوطني الفلسطيني 1968 ورد أن فلسطين بحدودها عام 1948 هي وطن الشعب العربي الفلسطيني، 3- ومنذ 1971 تم تبني هدف فلسطين الديمقراطية العلمانية التي يعيش فيها اليهود والمسيحيون والمسلمون على قدم المساواة، 4- وفي عام 1974 تم تبني البرنامج المرحلي الذي يقول بسلطة وطنية فلسطينية على أي جزء من أرض فلسطين، 5 -وفي إعلان الاستقلال بالجزائر 1988 تم ينبني هدف الدولة الفلسطينية المستقلة حسب قرارات الشرعية الدولية، 6- الدولة في خارطة الطريق حيث تم الحديث عن دولة مؤقتة، وأخيرا الدولة من خلال قرار دولي بعد فشل المفاوضات.

[3]-حيث قدم الفلسطينيون للجنة (بيل) عام 1937 مقترحا لدولة تتعايش فيها كل الديانات القائمة في فلسطين، وفي عام 1938 كرروا نفس المطلب أمام لجنة (ووهيد) وهي اللجان التي تم تشكيلها بعد الصدامات بين الفلسطينيين واليهود، وتكرر الأمر أمام اللجنة التي شكلتها الأمم المتحدة برئاسة برنادوت عام 1948.

[4]-كلمة (فتح) في المؤتمر الثاني لنصرة الشعوب العربية في القاهرة، كانون الثاني (يناير) 1969. أنظر كتاب فتح السنوي، 1969، ص:11.

[5]-محمد رشيد، نحو فلسطين ديمقراطية، مركز الأبحاث الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، 1970، ص: 14.

[6]-كانت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين أول من طرح علنا فكرة المرحلية وهو ما وجد استحسانا من حركة فتح التي تبنت الفكرة وأصبحت من أشد المتحمسين لها.

[7]-فلسطيني بلا هوية، مصدر سبق ذكره، ص: 218.

[8]المصدر نفسه، ص: 220.

[9]المصدر نفسه، ص: 225.

[10]-ورد الاعتراف بقرارات الشرعية ضمن نص إعلان قيام الدولة الذي كان كما يلي:- (واستنادا إلى الحق الطبيعي والتاريخي والقانوني للشعب العربي الفلسطيني في وطنه فلسطين وتضحيات أجياله المتعاقبة دفاعا عن حرية وطنهم وانطلاقا من قرارات القمم العربية ومن قوة الشرعية التي تجسدها قرارات الأمم المتحدة منذ عام 1947 وممارسة من الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير المصير والاستقلال السياسي والسيادة فوق أرضه، فإن المجلس الوطني يعلن، باسم الله وباسم الشعب العربي الفلسطيني قيام دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشريف).

[11]-جريدة الشرق الأوسط 11 تموز (يوليو) 2003.

الاخبار العاجلة
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لمنحك أفضل تجربة ممكنة.
موافق