أ-د/ إبراهيم ابراش
تحديات الهوية والثقافة الوطنية ودور الشباب في الحفاظ عليهما
أولا : الهوية الفلسطينية هوية وطنية جامعة
عندما كان الشعب الفلسطيني يواجه الاحتلال بالثورة والانتفاضة كانت الهوية الوطنية الفلسطينية في أوجها وجامعة للكل الفلسطيني في الوطن والشتات ،حتى إن الفلسطينيين رفعوا شعار (هويتي بندقيتي) ،فالاحتلال ومعاناة الغربة وحدا وصهرا الجميع في الوطنية ، هذا التداخل والتماهي بين كل الفلسطينيين جاء نتيجة عملية صهر في بوتقة الهوية الوطنية التي أكدت عليها الثورة الفلسطينية المعاصرة ،ففي ظل العملية الثورية والنضال الوطني المتجه صوب العدو لم يعرف الفلسطينيون انتماء إلا لفلسطين ،الأمر الذي جنبهم الوقوع في متاهات الصراعات العرقية والطائفية والجهوية التي تعاني منها كثير من الدول العربية والإسلامية ،إلا أن توقُف المواجهة الساخنة مع العدو وحالة الانقسام أفرزت تداعيات سلبية على وحدة وتماسك المجتمع والهوية .
وسط انشغال الشعب الفلسطيني بالاشتباك العسكري والسياسي مع الاحتلال والانشغال بالخلافات السياسية والانقسام ،تتعرض الهوية الوطنية اليوم لمزيد من حالات التشويه وتتعاظم مصادر تهديدها ،سواء من الاحتلال أو من طرف هويات عابرة للوطنية أو من هويات فرعية ،دون أن تولي النخبة السياسية الفلسطينية المتصارعة على السلطة اهتماما للموضوع ،بالرغم من أن الخطر الذي يهدد الهوية والثقافة الوطنية لا يقل عن خطر احتلال الأرض .
المتابع للسياسة الإسرائيلية في حربها ضد الشعب الفلسطيني يلمس أن إسرائيل تحارب الفلسطينيين على جبهتين :جبهة عسكرية سياسية حيث الاحتلال واستيطان الأرضي وتهجير سكانها ، وجبهة لا تقل خطورة تشتغل عليها إسرائيل بصمت ،إنها جبهة الثقافة والهوية والتاريخ والذاكرة والتراث ، حيث تسعى إسرائيل لسرقة وتشويه التراث الوطني الفلسطيني بالزعم بأنه تراث يهودي ،وكذا التاريخ الفلسطيني من خلال كي وعي ذاكرة الإنسان الفلسطيني وتشويه تاريخه ,ليصبح الشعب الفلسطيني شعباً بلا تاريخ و بلا هوية .
بالإضافة إلى التهديد الإسرائيلي للهوية وهو التهديد الرئيسي والأكثر خطرا ، هناك هويات صديقة كالهوية القومية والهوية الإسلامية تنازع الهوية الوطنية وتؤثر عليها . لا شك أن كثيراً من الشعوب العربية تعيش أزمة هوية أو تنازع بين هويات وخصوصاً ما بين الوطني والقومي والإسلامي ,إلا أن هذه الأزمة بالنسبة لهم تأخذ طابعا فكريا وإيديولوجيا أكثر من كونها أزمة وجود ,نحن نختلف عن بقية الشعوب العربية بالنسبة للهوية .إن تخلي العربي عن هويته الوطنية يبقى مسلماً أو عربياً يعيش على أرضه التاريخية وفي دولته الوطنية المستقلة ,أما الفلسطيني إن تخلى عن هويته أو وهنت هويته تضيع الأرض لأن عدوه يريد تغييب هويته لطمعه بالأرض،الهوية الوطنية الفلسطينية مرتبطة بالأرض أكثر من أي هوية أخرى , فأن ضعفت الهوية أو غابت تضيع الأرض ويضيع الوطن.
لذا فإن الحديث عن هوية فلسطينية لا يعني القطيعة مع الهويات الأخرى ولا تطابق أفراد الجماعة – الشعب الفلسطيني – في الدين والفكر والعرق , فالتعددية جزء من الهوية بالمفهوم الحضاري الديمقراطي ولكنها تعددية في إطار الوحدة،هوية لا تقوم على الإقصاء بل على الاستيعاب والتعايش ،على هذا الأساس يمكن للدين أن يكون جزءا من الهوية لا أن تغيب الهوية الوطنية في إطار الدين أو بالأصح لمصلحة إيديولوجية دينية , ويمكن للعروبة أن تكون جزءا من الهوية الفلسطينية ,لا أن تغيب الهوية الوطنية في إطار العروبة أو بالأصح أيديولوجية قومية توظفها لمصالحها أو لخدمة هويات قطرية.
عندما تنتفي الهوية الوطنية الجامعة عن شعب أو يتم تشويهها والتشكيك بها يسقط حقه في دولة مستقلة بل يفقد حقه بالحياة ،فهناك علاقة متينة تصل لدرجة التماهي احيانا ما بين الهوية والشعب والدولة ،لذا علينا كفلسطينيين أن نولي اهتماما بمسالة الثقافة والهوية الوطنية كسلاح في مواجهة عدو يرفض ويشكك بهويتنا وثقافتنا بل وبوجودنا الوطني التاريخي ،وكسلاح للأجيال الحالية والقادمة لتحافظ على هويتها وتواجه كل محاولات الشطب والإلغاء .
المرحلة التي تمر بها القضية اليوم تحتم على الجميع التمسك بالهوية الوطنية الفلسطينية أكثر من أي وقت مضى , والاعتراف أنه اليوم ما حك جلدك مثل ظفرك , وأن لا مدخل لفلسطين إلا عبر فلسطين والهوية الفلسطينية. مطلوب اليوم موقف وطني فلسطيني موحد يحافظ ويحمي الهوية الوطنية ويبلور رؤية وطنية جامعة. وطنية فلسطينية غير متصادمة أو معادية مع البعدين القومي العربي والإسلامي ، ولكن متفاعلة معهما على المستوى الشعبي وبما يعزز المشروع الوطني المتصادم مع الاحتلال .
اليوم على الفلسطيني أن يرفع عالياً وباعتزاز راية الهوية الوطنية الفلسطينية دون عقدة تأنيب ضمير أيديولوجي أو أخلاقي ، الفلسطيني أعطى للأمة العربية والإسلامية الكثير وراهن حتى آخر شعار من شعارات مدعي القومية والثورية والإسلاموية , اليوم لا يمكن للفلسطيني أن يجلس وينتظر زعيما قومياً أو إسلامياً أو أممياً ليناضل تحت جلبابه , ليس يأسا من الأمل بالمستقبل, ولا كفراً بالعروبة والإسلام ،ولكن رفضا لأدعياء العروبة والإسلام وحفاظاً على الهوية الوطنية وصونا لها من الاندثار.
ثانيا : استراتيجية الإلهاء والتدمير الذاتي
كثيرون لا يرون من الصراع بين الشعب الفلسطيني و إسرائيل إلا الوجه العسكري والاستيطاني والسياسي المُعلن ، وهو الوجه الأكثر خطورة وبشاعة بل شك ، لكن هناك وجه آخر للصراع له معاركه التي لا تقل خطورة وشراسة عن المعارك العسكرية ، حرب تعتمد استراتيجية الإلهاء التي تسعى للتأثير في المنظومة القيمية والأخلاقية للشعب وضرب اللحمة الوطنية والتشكيك بتاريخه وهويته الوطنية ، وبكل ما هو جيد وإيجابي من أفعال يقوم بها أشخاص أو مؤسسات وأحزاب ، ودفع أفراد الشعب للاهتمام بمصالحهم الشخصية والبحث عن لقمة العيش على حساب المصلحة الوطنية ، وتسبيق أمنهم الشخصي على أمن الوطن .
غالبا ما تكون ادوات استراتيجية الإلهاء داخلية حتى وإن كانت موجَهة من الخارج ، وأدواتها : عناصر فاشلة وفاسدة من النخبة السياسية ، مؤسسات مجتمع مدني مشبوهة تنفذ اجندة خارجية ، نخب اقتصادية ورجال أعمال فاسدون ، إعلاميون وكَتَبة (مثقفون) يقومون بوعي منهم أو بدون وعي بكي وعي الشعب ونشر حالة من اليأس والإحباط والتشكيك بكل شيء ، مسئولون على رأس مؤسسات مؤثرة كالجامعات والمؤسسات الإعلامية الكبرى الخ .
القائمون على استراتيجية الإلهاء يستلهمون تجارب التاريخ التي تؤكد بأن ( القلاع الحصينة تسقط من داخلها) ، ولأن إسرائيل بكل تحالفاتها وعلى مدى مائة سنة لم تستطع أن تُركِع الشعب الفلسطيني أو تحسم الصراع لصالحها فإنها اشتعلت على تدمير المجتمع الفلسطيني من الداخل ، فاستدرجت لمخططاتها شخصيات وقيادات في مراكز القرار ، بوعي من هؤلاء أو بدون وعي ، ليخربوا المجتمع من الداخل ، تخريب المؤسسات والتنظيمات الرسمية والحزبية ، تخريب الجامعات ومؤسسات المجتمع المدني ، تخريب وتشويه الثقافة والمثقفين ، بالإضافة إلى ذلك إدخال مفاوضات التسوية وحوارات المصالحة في آتون استراتيجية الإلهاء لتصبح مجرد مفاوضات عبثية لتضييع وقت تستفيد منه إسرائيل لاستكمال مخططاتها التوسعية ، و حوارات مصالحة عبثية أيضا لتضييع الوقت لتكريس الأمر الواقع وخلق حالة من التكيف مع الانقسام .
استراتيجية الإلهاء لا تحتاج إلى عدة وعتاد عسكري (القوة الخشنة) ولا يُصاحبها صخب ، بل تعمل بهدوء وخبث (القوة الناعمة) . إن كانت النخب الفاسدة أهم ادوات استراتيجية الإلهاء ، فإن المثقفين المستقلين برأيهم والوطنيون الشرفاء بما يملكون من صدق الكلمة والجرأة في القول هم المؤهلون لكشف هذه الاستراتيجية ومواجهة مخططاتها .
الوطنيون أصحاب الرأي الحر والمثقفين والأكاديميين هم جنود معركة الحفاظ على الثقافة والهوية والقيم الوطنية ومواجهة أفاعيل أدوات استراتيجية الإلهاء . هذا يُلقي على عاتقهم مسؤولية لا تقل عن مسؤولية القيادات السياسية والعسكرية الوطنية وكل منهم يُكمل الآخر ، الأمر الذي يتطلب أن يتفهم كل طرف ما يقوم به الطرف الثاني .
حتى يقوم المثقفون والأكاديميون وكل وطني حر بهذه المهمة النضالية عليهم أن يتساموا على كل ما يَصدر عن صغار وضعتهم الصدفة أو الفساد في موقع المسؤولية ، حتى وإن مُست تصرفات الصغار مصالحهم ، وسيكون الصغار واهمين إن اعتقدوا أنهم بتطاولهم على الكبار يصبحوا كبارا أو يمكنهم أن يُخرجوا المثقف الملتزم بقضية وطنية عن واجبه الوطني وينساق لمهاتراتهم وصغائرهم ، أو يصبح مثلهم .
الصبر إلى حين دون التخلي عن الحق ومحاسبة الفاسدين في الوقت المناسب ، ومعالجة المشاكل بالتي هي أحسن ، والحفاظ على شعرة معاوية من خلال عدم اللجوء للتكفير والتخوين ، وعدم الإنجرار وراء مهاترات البعض ممن تسللوا لمواقع المسؤولية بدعم خارجي أو وضعتهم المصادفة في موقع المسؤولية مستغلين حالة الانقسام وضعف الحكومة وترهل منظمة التحرير وحركة فتح ، وغياب المرجعية الوطنية الواحدة … كل ذلك لا يُعتبر ضعفا ، ولكنها حكمة يتميز بها الوطنيون الحقيقيون الحريصون على مصلحة الوطن والمدركون لما يُحاك من مخططات لتصفية القضية الوطنية .
الدور الذي يقوم به المكلفون بإستراتيجية الإلهاء (الطابور الخامس) في تخريب الوطن لا يقل عن دور إسرائيل ، وما بين الطرفين تنسيق وتبادل خدمات وتسهيل مصالح . وبديهي أنه لا يمكن للفلسطينيين أن ينتصروا على إسرائيل في ظل مؤسسات عاجزة و فاشلة ونظام سياسي مفكك ونخب سياسية فاسدة .
ثالثا : العصبيات الفرعية والجهوية كتهديد للهوية الوطنية الجامعة
فكأنه لا يكفي هذا الشعب الاحتلال والشتات في كل مناطق المعمورة وتَدخُّل من يُعتبرون إخوة وأشقاء في شؤوننا الداخلية بما يؤدي لتعزيز الخلافات السياسية والأيديولوجية ، ولا يكفي الحزبية المقيتة والانقسام السياسي والجغرافي … ، يعمل البعض بالخفاء على تقسيم الوطن – والوطن انتماء وهوية وليس مجرد بقعة أرض أو دولة – من خلال تعزيز الهويات الفرعية والتي غالبيتها مصطنعة .
التعصب للهويات الفرعية : طائفة أو عرق أو قبيلة أو عائلة أو جهة جغرافية الخ آفة خطيرة تهدد وجود المجتمعات والدول وتُسبِب حروبا أهلية يدفع الجميع ثمنها . كل مَن يرفع راية هوية فرعية ويتعصب لها على حساب الانتماء للوطن إنما يخون الوطن ولو بطريقة غير مباشرة من خلال تهديد وحدة الشعب ، وغالبا ، فإن مَن يلجأ للتعصب للانتماءات الأصغر –الهويات الفرعية- إنما يكشف عجزه عن كسب ثقة واحترام الجميع على قاعدة الانتماء الوطني الأكبر للهوية الوطنية ،فالسياسي أو الطامح للسلطة عندما يعجز ويفشل عن استقطاب الكل على أسس وطنية يلجأ لاستقطاب الجزء على أسس طائفية أو عرقية أو قبلية وقد تأول الأمور إلى العائلية ، وفي هذه الحالة فإنه يسبِّق مصالحه ومصالح جماعته الشخصية على المصلحة الوطنية حتى وإن رفع شعارات المصلحة الوطنية والعامة.
إن كانت هذه الظاهرة خطيرة بالنسبة للدول والمجتمعات المستقلة فهي أكثر خطورة بالنسبة للشعوب الخاضعة للاحتلال كما هو الحال بالنسبة للشعب الفلسطيني حيث تكون الحاجة للوحدة الوطنية أكثر إلحاحا لمواجهة عدو متفوق طامع بالأرض ومُهدِد للهوية الوطنية بل للوجود الوطني. كانت الهوية الوطنية في أوجها عندما كان الشعب الفلسطيني يواجه الاحتلال بالثورة والانتفاضة حتى إن الفلسطينيين رفعوا شعار (هويتي بندقيتي) فالاحتلال ومعاناة الغربة وحدا وصهرا الجميع في الوطنية ، هذا التداخل والتماهي بين كل الفلسطينيين جاء نتيجة عملية صهر في بوتقة الهوية الوطنية التي أكدت عليها الثورة الفلسطينية المعاصرة . في ظل العملية الثورية والنضال الوطني المتجه صوب العدو لم يعرف الوطنيون الفلسطينيون هويات فرعية متناحرة أو انتماء إلا لفلسطين الأمر الذي جنبهم الوقوع في متاهات الصراعات العرقية والطائفية والجهوية التي تعاني منها اليوم كثير من الدول العربية والإسلامية ، إلا أن توقُف المواجهة الساخنة مع العدو وحالة الانقسام أفرزت تداعيات سلبية على وحدة وتماسك المجتمع والهوية .
اشتغل البعض على التباينات ما بين الداخل والخارج في محاولة لتهميش الخارج الفلسطيني وهم نصف الشعب وكلهم تقريبا لاجئين ، ثم تم الاشتغال على اصطناع هوية الضفة وهوية غزة وتعزيز حالة التباين بين الطرفين ، وإن كانت إسرائيل من أهم من اشتغل على هذه الحالة لإفشال المشروع الوطني القائل بدولة فلسطينية مستقلة في الضفة وغزة وكان الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة من طرف واحد عام 2005 أهم خطوة في هذا السياق ، إلا أن أطرافا عربية وفلسطينية عززت هذا التباين بين الضفة وغزة ، وقد سعت جميع الأطراف المتواطئة في خلق تباين بين هوية غزة وهوية الضفة لخلق القطيعة ما بين الضفة وغزة ومحاولة تحويل الانقسام من انقسام جغرافي وسياسي إلى انقسام اجتماعي وثقافي وهو الأكثر خطورة لأنه يؤدي لتفكيك الرابطة الوطنية التي توحد الجميع ، وللأسف بتنا نتلمس خلال السنوات الأخيرة حالة من عدم تقبل فلسطينيو الضفة الغربية لأبناء قطاع غزة المقيمين في الضفة أو الزائرين لها بالإضافة إلى ضعف حالة التفاعل الوطني مع معاناة فلسطينيي غزة ، أيضا قلة زيارات أهالي الضفة لقطاع غزة وليس صحيحا أن السبب يعود لامتناع إسرائيل عن منح تصاريح زيارة بل لعدم وجود رغبة بالزيارة .
محاولات تدمير ومحاربة الشعب الفلسطيني لم تتوقف عند الممارسات الإسرائيلية الاستيطانية وحالة الحصار وإعاقة الجهود الدبلوماسية للوصول إلى اعتراف دولي بدولة فلسطينية مستقلة ، كما لم تتوقف عند فصل غزة عن الضفة ومحاولة اصطناع هوية غزية وهوية ضفاوية ، بل تجاوزت كل ذلك عندما ربطت حركة حماس نفسها بمشروع الإسلام السياسي الذي يصطنع تعارضا بين الهوية الوطنية والإسلام ، أو بين المشروع الوطني والمشروع الإسلامي ،ومع سيطرة حماس على قطاع غزة تم تهميش وتهديد الهوية الوطنية عندما عملت حركة حماس على إلحاق القضية الفلسطينية بمشروع الإسلام السياسي للإخوان وتمت إدارة الظهر للمصالحة الوطنية وللعمل الوطني لصالح تثبيت قطاع غزة كقاعدة من قواعد المشروع الإسلامي المتعدي للوطنية .
رابعا : في هويتنا الوطنية متسع للجميع
لا غرو أن السياسة أصبحت اليوم فضاء للاختلاف والصراع ،صراع على السلطة وصراع الأيديولوجيات والمصالح، صراع لم تعد تحده أي حدود، حتى الحدود الأخلاقية أصبحت مبهمة وغير محددة المعالم ،هذا ناهيك عن الحدود الوطنية التي بدلا من أن تكون الإطار المستوعب لكل الخلافات السياسية والصاد والكابح لكل شطط في التحليل والتأويل،أصبحت موضوعا للخلاف بل أكثر المواضيع استجلابا للصراع الحاد والدامي في كثير من الحالات . لم تعد الخلافات السياسية في مجتمعنا تخضع لقاعدة (الاختلاف في إطار الوحدة) أي الاختلاف بما لا يمس الثوابت الوطنية أو المصلحة الوطنية العليا ،بل أصبح صراعا على هذه الثوابت ،وعندما يصبح الصراع السياسي على الثوابت والمرجعيات أو تصبح هذه محل تساؤل آنذاك يصبح كل شيء مباح حتى دماء أبناء الوطن باسم ثوابت ومرجعيات موهومة لهذا الحزب أو ذاك ويصيح الأمر أكثر خطورة عندما يتم إضفاء طابع القدسية على هذه الثوابت والمرجعيات .
إن كان عالم السياسة هو عالم الصراع والاختلاف–دون تجاهل أوجه الاتفاق والتعاون التي يفترض أن تحكم مكونات النظام السياسي بما يحفظ وحدة واستقرار هذا النظام – فإن وجود واستمرارية الأمم يجب ألا يُرتهن بعالم السياسية وتعقيداته ،بل هناك ما يُؤمن للأمم والشعوب استمراريتها ويحفظ لها خصوصيتها ومكانتها بين الأمم ونقصد يذلك الثقافة والهوية الوطنية والثوابت الوطنية المعبرة عنهما ،وإن كانت السياسة تُفرق فيُفترض بالثقافة والهوية أن تُوحِدا ،حيث القواسم الثقافية والهوياتية المشتركة بين أبناء الأمة الواحدة هي أوسع مما هي عليه بالنسبة للسياسة .
في الحالة الفلسطينية تصبح الأمور اكثر تعقيدا والتحدي اكبر سواء بالنسبة للاتفاق على الثوابت والمرجعيات أو بالنسبة للعلاقة بين السياسي والثقافي .المخاطر المهددة لثقافتنا وهويتنا الوطنية متعددة، فبالإضافة إلى ما تعرفه الثقافة والهوية في المجتمعات العربية الأخرى من تحديات ،هناك خطر الإحتلال وهو خطر لا يهدد فقط الأرض بل يهدد ثقافتنا وهويتنا الوطنية إنه نقيض وجودنا بما تتضمنه كلمة الوجود من حموله ثقافية وحضارية ،بل يمكن القول بأن الخطر الذي يهدد هويتنا وثقافتنا الوطنية لا يقل خطورة عن الخطر الذي يهدد الأرض،بالإضافة إلى وقوع القضية الفلسطينية محل تجاذب صراعات وأجندة إقليمية ودولية لكل منها أيديولوجيتها وخصوصيتها الثقافية ،هذه القوى تحاول توظيف ما تقدمه من مساعدات مالية أو مواقف سياسية لتقوض أسس ثقافتنا وهويتنا الوطنية ومشروعنا الوطني المؤسس عليهما.
لقد أثبت الواقع وخصوصا في السنوات الأخيرة أن الارتباط بهذه الأجندة الخارجية وبإيديولوجياتها الثقافية والعقائدية وما نتج عنها من حالة استقطاب صدامية كان على حساب ثقافتنا وهويتنا مما شكل تهديدا لمشروعنا الوطني المستقل ووضع مكونات النظام السياسي بل المجتمع ككل فيما يشبه الحرب الأهلية،إي حزب أو جماعة يكون امتدادا لجماعة أو حزب مقرها أو مرجعيتها خارج الوطن يصبح مصير هذه الجماعة الوطنية مرتبط بمصير مركزها بالخارج .
ثقافتنا الوطنية ، ثقافة شعب وأرض مهد الديانات والتي تمتد لآلاف السنين ،هذه الثقافة التي احتضنت كل الديانات والثقافات ومزجت بينها بشكل إبداعي و تعززت عبر السنين بروح شعب واجه الاحتلال ودعم ثقافته التاريخية بثقافة المقاومة والمواجهة ثم بثقافة الديمقراطية عندما فُرض عليه التحدي الديمقراطي وهو في مرحلة التحرر الوطني،ثقافتنا الوطنية لا تحتاج لأن تُلحق بأحد تكون أو أن تكون امتدادا سياسيا لأحد خارج الوطن فلسطين ، في ثقافتنا الوطنية هذه متسع للجميع ،فيها متسع لكل القوى والأحزاب والتيارات والأيديولوجيات ما دامت وجهتها فلسطين ،إن ثقافتنا الوطنية الحاضنة لهويتنا الوطنية متفتحة ومستوعبة لكل الثقافات وخصوصا للثقافة القومية والثقافة الإسلامية والعلاقة بينهم علاقة جدلية وتفاعلية ولكن مع ترتيب الأولويات نظرا لخصوصية الحالة الفلسطينية ،ثقافتنا الوطنية ثقافة تحترم التعددية الملتزمة بتفهم واحترام الخصوصية و وهذا يتطلب توطين أو تبيئة كل الايديلوجيات والثقافات بحيث تصبح جزءا من ثقافتنا الوطنية،هذه الخصوصية تحتم أن يكون المثقف أو السياسي الفلسطيني وطنياً أولا ثم قوميا أو عقائديا إسلاميا أو يساريا أو أي انتماء آخر ،لا يعني هذا سمو الوطني أو الثقافة الوطنية على القومي أو الإسلامي ،بل معناه أن خصوصية القضية والحضور الضاغط لنقيض هويتنا وثقافتنا ووجودنا وهو الاحتلال ،يحتم تسبيق الوطني على غيره.
خامسا : دور الشباب في الحفاظ على الهوية الوطنية
لا نشكك بوطنية الأحزاب ولا بما قدمت من تضحيات ولكن الأحزاب وصلت لطريق مسدود وقدمت ما تستطيع ولم يعد بإمكانها تقديم المزيد بسبب بنيتها التنظيمية وارتباطاتها الأيديولوجية والسياسية وشخصنتها حيث غيَّبت القيادات الحزب وغيَّب الحزب الوطن الخ ، وللأسف فقد قصرت الأحزاب وخصوصا الوطنية في دورها في الحفاظ على الثقافة والهوية الوطنية ونقلها وتعزيزها عند الجيل الجديد وخصوصا الشباب من خلال قنوات التنشئة السياسية المتعددة ، بينما كانت جماعات الإسلام السياسي أكثر نجاحا في عملية التثقيف السياسي والحزبي وشحن عناصرهم منذ الصغر بمعتقدات ومبادئ هذه الأحزاب ، وهي للأسف مبادئ معادية للثقافة والهوية الوطنية .
لقد قصرت الأحزاب الوطنية في استيعاب الشباب في هيئاتها القيادية و لم تمنحهم دورا في القيادة والتوجيه خلال عقود من سيطرة قيادات شاخت وأفلست وفشلت في التعامل مع قضايا الشباب ومع مجمل القضية الوطنية . ولم يقتصر الأمر على ذلك بل إن فشل الأحزاب في إنجاز المصالحة وإنهاء الانقسام وفي التوصل إلى قيادة وحدة وطنية وإستراتيجية وطنية أنعكس على الهوية الوطنية التي باتت مهددة بالانقسام أيضا كما انعكست على الشباب الذين باتوا منقسمين ما بين هذه الأحزاب.
بعد كل ما جرى فإن كل الشعب الفلسطيني في الوطن و الشتات يؤيد خروج الشباب للشارع في حراك عنوانه إنهاء الانقسام ، وليس المهم كم عدد الذين سيخرجون أو المدى الزمني الذي سيأخذه الحراك أو ما يمكن أن يحقق من أهداف … المهم أن يأخذ الشباب دورهم ويُسمِعوا العالم صوتهم وهم أغلبية الشعب المتضررة من الاحتلال والمتضررة من الانقسام.نعم من حق الشباب بل واجب عليهم أن يقودوا المرحلة أو على الأقل أن يكونوا من صناع القرار بعد سنوات من المراهنة على أحزاب وحركات أدت بقضيتنا الوطنية للتهلكة واستعملت الشباب كوقود لنار شهواتها ومطامعها ومصالحها وأجندتها الخارجية.
من حق الشباب التمرد على حالة العبودية التي تمارسها عليهم الأحزاب والحركات السياسية بكل توجهاتها،هذه الأخيرة التي حرضتهم لمواجهة الاحتلال ومواجهة خطر الموت والاعتقال ، أو دفعتهم للاشتباك مع إخوانهم من شباب الفصائل الأخرى من اجل أن يتموقع من حرضهم على ذلك كوزراء ونواب تشريعي وقيادات سياسية وأصحاب نفوذ وجاه.
لم يقدم شبابنا حياتهم خلال انتفاضة 87 وانتفاضة الأقصى وخلال ثلاثة موجات من العدوان المدمر على قطاع غزة وخلال انتفاضة الدهس والطعن حيث استشهد منهم الآلاف ودخل السجون آلاف أخرى وجُرح وقطعت أوصال آلاف أخرى الخ ، لم يقوموا بذلك من أجل أن يستقر الأمر على تخبتين وسلطتين وحكومتين عاجزتين عن إيجاد حلول لمشاكل الشعب ، بل من أجل الوطن ، ومن هذا المنطلق يجب ينالوا بمقدار تضحياتهم .
من حق الشباب ولو مرة واحدة أن يكونوا أصحاب قرار ويجربوا إمكانياتهم وأفكارهم وليس مجرد مشاريع شهادة مدفوعة الثمن تخدم مصالح نخب وأحزاب لا مصلحة الوطن،من حق الشباب أن يتمردوا على حالة الإذلال التي يتعرضون لها يوميا من خلال وقوفهم في الطوابير للحصول على كوبونة أو استجداء هذا المسئول أو ذاك للحصول على وظيفة أو مساعدة أو منحة دراسية،من حق الشباب وواجب عليهم أن يخرجوا في ثورة ويعبروا عن مواقفهم من تلقاء أنفسهم دون توجيه ووصاية من الأحزاب ودون انتظار مقابل مادي لخروجهم ،وخصوصا أن غالبية الأحزاب باتت عالة على الوطن وعاجزة عن إبداع أي جديد للخروج من الأزمة إلا تكرار نفس الخطاب الممجوج والخشبي الذي لم يعد يُقنع أحدا .
نقول للشباب أنتم أملنا في الحفاظ على الثقافة والهوية الوطنية ،وأنتم مستقبلنا ، فلا تترددوا في حمل الراية وتَحَمُل المسؤولية،عندما تتحركون في الضفة والقدس وغزة وفي جميع مناطق الشتات معناه أنكم تستنهضون الهوية الوطنية وتؤسسون لعهد جديد لحركة التحرر الوطني .على شباب فلسطين أن لا يترددوا وألا ترهبهم الأحزاب أو تغريهم وعليهم أن لا يخافوا من السلطة والحكومة ولا من استدعاء يأتيهم من أجهزة أمن ، إنجاز المشروع الوطني لن يتحقق إلا بإنهاء الانقسام .
17 – 1-2017