ليس البُعد الجغرافي لوحده ما يُضعف من حضور المملكة المغربية في المشهد الإعلامي عند تناول قضايا ومشاكل الشرق الأوسط ، بل أيضا سياسة حكيمة للمؤسسة الملكية المغربية وللشعب المغربي وللنخب السياسية تقوم على مبدأ وقاعدة العمل بصمت ، سواء في مجال بناء وتطوير الحياة السياسية داخليا دون تبجح مع أن التجربة السياسية الديمقراطية للمغرب تمثل النموذج الأكثر نجاحا في العالم العربي ، أو في مجال تقديم المساعدة للشعب الفلسطيني دون ضجيج أو إثارة إعلامية وبدون التدخل في شؤونهم الداخلية ، وفي هذا السياق يأتي افتتاح المستشفى الميداني المغربي في قطاع غزة .
تدشين مستشفى ميداني مغربي في قطاع غزة أمس الثلاثاء الثاني عشر من يونيو كجزء من قافلة مساعدات مغربية لفلسطين يفتح مجالا للنقاش حول طبيعة وحجم وأهداف (المساعدات) التي يتم تقديمها من الدول العربية والإسلامية للشعب الفلسطيني ، حيث نلاحظ تباين الدول العربية والإسلامية فيما تقدمه من (مساعدات) للشعب الفلسطيني ، ومن خلال رصد موضوعي لهذه المساعدات وأهدافها ونتائجها لمسنا أن لا علاقة طردية بين حجم المساعدات ومردوديتها على صمود الشعب الفلسطيني وصالح قضيته الوطنية ، حيث تخفي المساعدات أحيانا أهدافا أخرى غير مُعلن عنها .
إن كان المغرب قام بمبادرته الأخيرة بصمت وبدون ضجيج إعلامي ، وقد سبقتها مبادرات كثيرة وسياسات ثابتة في دعم الشعب الفلسطيني ، فإننا نتحفظ في المقابل على التضخيم والبهرجة الإعلامية من بعض الدول وهي تقدم ما تسميها (مساعدات إنسانية) فيما هي تخفي أهدافا أخرى ، كما أن كلمة مساعدات تحمل حمولة استعلائية حيث مَن يقدم المساعدات يقوم بعمل إنساني للطرف الثاني المسكين والمغلوب على أمره (الفلسطينيون) وليس انطلاقا من واجب قومي وأخلاقي على هذه الدول .
يمكن وصف ما تقدمه الدول الأجنبية أو الأمم المتحدة للفلسطينيين بأنها مساعدات انسانية حتى في هذه الحالة تكمن أهداف أخرى تختلف من دولة لأخرى ، ولكن ونظرا لطبيعة العلاقات التاريخية والقومية والدينية بين الفلسطينيين والدول العربية والإسلامية وخصوصا المحيطة بفلسطين فهناك ما هو أكبر وأعمق من مجرد الدعم لاعتبارات إنسانية ،ذلك أن نكبة الشعب الفلسطيني بضياع فلسطين وقيام دولة الكيان الصهيوني تتحمل الدول العربية مسؤولية كبيرة عنها ، ففلسطين ضاعت بسبب حروب عربية إسرائيلية ، أيضا فإن وجود القدس والمسجد الأقصى ودفاع الشعب الفلسطيني لوحده عنهما يفرض على المسلمين في كل انحاء العالم تقدير واحترام الشعب الفلسطيني الذي لولا دفاعه عن المقدسات لتم تهويد القدس والمسجد الأقصى منذ فترة طويلة ، ولولا صمود الشعب الفلسطيني وقتاله المتواصل للمشروع الصهيوني منذ مائة عام لكانت إسرائيل تمددت إلى عمق العالم العربي .
وبالعودة للبداية نقول بأن الدول العربية والإسلامية تتباين في حجم مساعداتها والتباين لا يعود فقط للتباين في ثروات هذه الدول حيث تقدم دول الخليج وإيران وتركيا مثلا أموالا أكثر ، بينما الدول العربية والإسلامية الأخرى مساعداتها محدودة بما هو مقرر لدعم ميزانية السلطة الفلسطينية أو مساعدات عينية بين الفترة والأخرى .
هذا التباين يمكن تفهمه لو كان راجعا للتباين في الثروة والقدرات المالية للدول فقط ، ولكن للأسف فإن سبب التباين يعود لأن بعض الدول توظف ما تسميها مساعدات لخدمة مصالحها وأجندتها الإقليمية ، الأمر الذي يرتد أحيانا سلبا على الفلسطينيين وخصوصا عندما تُقدم المساعدات بشكل موسمي ولطرف فلسطيني محدد على حساب بقية الأطراف أو في إطار المناكفة السياسية مع دول أخرى تعمل على استمالة الفلسطينيين وتوظيف قضيتهم لمصالحها .
نعم ، الشعب الفلسطيني يحتاج إلى من يقف بجانبه وهو يناضل ضد الاحتلال الصهيوني ويدافع عن المقدسات وهو ممتن لمن يقف إلى جانبه وليس بناكر جميل أحد ، ولكن تسييس أو توظيف (المساعدات) لجر الطرف الفلسطيني المتلقي لها للمحور الذي تتموقع فيه أو تقوده الجهة المانحة أثقل كاهل القضية الفلسطينية وعرضها لغضب وانتقادات بل وعقوبات أصحاب المحاور والأجندات الأخرى ، ولنا في العلاقة بين حركة حماس ومحور قطر وإيران وتركيا مثالا حيث يدعم أطراف هذا المحور حركة حماس فيرد محور السعودية والأمارات والبحرين باتهام حماس بأنها حركة إرهابية .
ومن جهة أخرى فإن هذه المساعدات ساعدت على تعميق الانقسام الفلسطيني الداخلي ما بين غزة والضفة وفتح وحماس ، كما أن بعض أوجه المساعدات وتحديدا العسكرية كالتي تقدمها إيران لفصائل المقاومة في غزة تعطي لإسرائيل وواشنطن المبرر لاتهام حركات المقاومة بالإرهاب وأنها توتر الوضع في قطاع غزة استجابة لمطالب إيرانية ، هذا ناهيك عن محاولة ابتزاز الفلسطينيين من خلال المساعدات وخصوصا في قطاع غزة لجرهم للقبول بصفقة القرن ، أو ما يمكن تسميتها معادلة الغذاء وتخفيف الحصار مقابل التعاطي مع صفقة القرن بالقبول الصريح أو الضمني ، بالإضافة إلى أن دولا عربية توظف مساعداتها للفلسطينيين وتضخمها إعلاميا بتساوق مع جهودها للتطبيع مع إسرائيل وبالتالي تصبح هذه المساعدات وكأنها رشوة حتى يسكت الفلسطينيون عما يجري في المنطقة من تحالفات جديدة وتغيير في معادلة الأصدقاء والأعداء وإخراج إسرائيل من معسكر الأعداء .
في مقابل هذا المشهد الملتبس لما تسمى المساعدات يوجد مشهد آخر لدول عربية تقدم ما تستطيع من مساعدات بصمت ليس الآن فقط بل عبر تاريخ القضية الفلسطينية مثل الكويت والجزائر والمغرب والأردن وغيرها ، وفي هذا السياق يأتي إرسال المغرب لمستشفى ميداني لقطاع غزة ليضاف إلى المستشفيات الميدانية للكويت والجزائر والأردن ، والمغرب في مبادرته الأخيرة إنما يؤكد على نهج متواصل للمغرب وهو دعم القضية الفلسطينية بصمت ودون انتظار ثمن أو مقابل .
المساعدات الإنسانية من غذاء وكساء وعلاج مهمة ولكنها لوحدها لا تعتبر مقياسا على المواقف السياسية للدول تجاه القضية الفلسطينية ، كما أن مشكلة الشعب الفلسطيني ليست انسانية فقط بل مشكلة شعب يناضل من أجل الحرية والاستقلال ، وإن كانت المشكلة إنسانية من غذاء وكساء وعلاج وعمل فقد كانت إسرائيل توفر كل ذلك للفلسطينيين وهم تحت الاحتلال .
إن كانت المساعدات المغربية المادية محدودة فإنها أكثر قيمة وفائدة استراتيجيا من مساعدات أكبر حجما تأتي من دول أخرى مشروطة وتذل الفلسطينيين وتثير بينهم الفتنة وتحرف العمل الوطني عن مساره الصحيح ، لأن المساعدات المغربية غير مشروطة ولا ينتظر المغاربة مقابلا من الفلسطينيين ولا تعزز الانقسام ، كما أن المواقف السياسية المشرفة للشعب المغربي تعوض و بالحسابات الاستراتيجية محدودية الدعم المالي .