يبدو أن كثيرا من الفلسطينيين وخصوصا الأحزاب لم يتعلموا من التجربة التاريخية لحركة التحرر الفلسطيني طوال قرن من الزمان وخصوصا المعاصرة في منتصف الستينيات سواء في مجال المقاومة والعمل العسكري المباشر أو على مستوى المفاوضات مع العدو، ولم تستوعب بعض أحزابنا خطورة الانقسام والصراع على السلطة في ظل الاحتلال، ولم تدرك أهمية ترتيب أولويات المواجهة وتسبيق الرئيسي على الثانوي، ولم يستفيدوا من تجرينيتا مع الأنظمة العربية والإعلام العربي الرسمي والمحاور الخارجية.
هناك استمرار لحالة فقدان البوصلة وأحيانا تغليب المصالح الحزبية على المصلحة الوطنية العامة، وغياب التفكير العقلاني بحيث بات كل من ينتقد أي مكون سياسي فلسطيني معرضا للاتهام بالتخوين والتكفير والتماهي مع رواية العدو، كما يستمر الخلط بين المقاومة وحركة حماس وبين الجماعات الإسلامية والإسلام وفي التباس مفهوم المقاومة وعدم الاتفاق على استراتيجية وطنية بشأنها ما بين رؤية منظمة التحرير والسلطة حيث التركيز على المقاومة السلمية ورؤية حماس وفصائل أخرى للمقاومة العسكرية حتى تحرير فلسطين وأخيرا دعوة القيادي الحمساوي خالد مشعل بالعودة للعمليات الاستشهادية داخل فلسطين المحتلة الخ.
وسنتناول بعض القضايا من المشهد الراهن والتي تعكس التباين في المواقف والرؤية بين الفلسطينيين والخلل في النظام السياسي:
أولا: المعركة الحاسمة في الضفة والقدس وليس قطاع غزة
ما يجري في الضفة الغربية والقدس من اقتحامات للمسجد الأقصى ودعوة العنصري المتطرف بنغفير لبناء كنيس يهودي فيه وتعاظم الاستيطان ثم اجتياح الضفة مرة أخرى كما جرى عام ٢٠٠٢.. يؤكد النوايا الحقيقية لإسرائيل التي غررت بالعالم طوال عقود بحديثها عن رغبتها بالسلام وتسوية سياسية مع الفلسطينيين كما تؤكد ما سبق أن حذرنا منه منذ سنوات وكتبنا عنه عشرات المقالات، إن المعركة الحقيقية هي التي تجري في الضفة والقدس وكل ما جرى ويجري منذ خطة الفصل الأحادي عن قطاع غزة التي نفذها شارون ٢٠٠٥ والجهود المكثفة لتعزيز فصل غزة عن الضفة وما يجري في غزة من بناء انفاق وصواريخ وحصار… هدفها تشتيت الانتباه عن جوهر الصراع والهاء الفلسطينيين والعالم لإبعاد الأنظار عما يجري في الضفة وخصوصا تنفيذ خطة الحسم التي وضعها المتطرف سموترتش عام ٢٠١٧.
ساعد إسرائيل في ذلك ضعف السلطة وما هو مفروض عليها من التزامات بمقتضى اتفاقية أوسلو بالإضافة الى أوجه فساد ومبالغة في المراهنة على حسن نية واشنطن وتل أبيب، ولكن ما ساعدها أكثر سوء الحسابات والتقدير عند حركة حماس وحلفائها من فصائل المقاومة الذين ربطوا مصير المقاومة والقضية بإيران ومحور المقاومة، ودور قطر التي كانت عرابة الانقسام وقناة التواصل والتنسيق بين حماس وإسرائيل، وكان هذا الدور واضحا في دور قناة الجزيرة التي ركزت كل اهتمامها على غزة والمقاومة في غزة وحصار غزة، وهي التي استعملت لأول مرة مصطلح (الحرب على غزة) وكأنه لا توجد حرب في الضفة.
واليوم نحذر من المبالغة في تقدير قوة وحضور المقاومة المسلحة ومقاتليها في الضفة كما تفعل قناة الجزيرة وندعو لتغليب العقل حتى لا يكون مصير الضفة كمصير غزة من حيث التدمير والضحايا واحتمال أن يطولها مخطط التهجير. ليست هذه دعوة للتخلي عن مقاومة الاحتلال بل تمني ممارسة المقاومة بشكل عقلاني وفي إطار استراتيجية وطنية حتى إن كانت مقاومة سلمية، فالانحناء للعاصفة حتى تمر لا يعني الخنوع والاستسلام.
ثانيا: عبثية المفاوضات مع الإسرائيليين
كان معارضو اتفاقية أوسلو وخصوصاً حماش واليسار يصفونها بأنها عبثية وخيانية حتى الرئيس أبو مازن وصفها في بعض المراحل بأنها عبثية وقرر وقفها، وفي الحقيقة كانت كذلك لأن امتدادها حتى عام ٢٠١٠ شكل ستاراً وتغطية للممارسات الإسرائيلية في الضفة والقدس ،من توسيع الاستيطان وبناء الجدار العنصري واقتحام الضفة ٢٠٠٢ واغتيال أبو عمار ٢٠٠٤ وفصل غزة عن الضفة ٢٠٠٥ وتعطيل أي حراك دولي جاد بحجة أنه سيؤثر على عملية السلام الخ، دون تجاهل ما تحقق خلال هذه السنوات من بعض الانجازات نتجت عن توقيع اتفاقية أوسلو سبق وأن كتبنا حولها ،أهمها تثبيت ودعم صمود الشعب على أرضه وتعزيز الحضور الفلسطيني دولياً. ونخشى أن المفاوضات الجارية اليوم في القاهرة وقبلها في الدوحة وروما والممتدة منذ عشرة أشهر دخلت في ما هو أسوأ من العبثية حيث تمنح العدو مزيداً من الوقت لمواصلة تنفيذ مخططاته الحقيقية من حرب الإبادة يساعده في ذلك الدعم الأمريكي الشامل حتى على طاولة المفاوضات وضعف الوسيط العربي قطر ومصر.
ففي مفاوضات القاهرة وما يجعل اي مراهنة على مخرجات منصفة للفلسطينيين ومستقبل غزة هو الأطراف الثلاثة، واشنطن والقاهرة والدوحة، التي تتفاوض كوسطاء أو نيابة عن حركة حماس وحضور اسرائيل وغياب الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني. , وعياب حركة حماس أيضا.
موقف واشنطن واضح في انحيازها لإسرائيل بل موقفها أكثر سوءا من نتنياهو والخلافات بينهما مصطنعة لأنها تتعامل مع الحرب على غزة كجزء من صراع أكبر له علاقة باستراتيجيتها في الشرق الأوسط والعالم وتحاول توظيف هذه الحرب لتحقيق أهداف جيو استراتيجية في المنطقة بالإضافة الى توظيف حرب غزة كورقة في الانتخابات بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، أيضا استراتيجية واشنطن تقوم على إدارة الصراعات الدولية وليس حلها.
أما القاهرة والدوحة فهما أضعف من أن تضغطان على إسرائيل وواشنطن.
دور قطر معروف كأداة لتنفيذ سياسيات وتسليك علاقات لواشنطن لا تستطيع هذه الأخيرة تنفيذها مباشرة أما مصر فبالرغم من وقوعها في بؤرة الصراع وحساسية موقعها الجيواستراتيجي مع غزة وإسرائيل إلا أنها لا تستطيع الضرب على الطاولة أمام تل أبيب وواشنطن حيث تواجه تحديات في علاقاتها مع الجيران، ليبيا والسودان واثيوبيا، بالإضافة الى التحديات الداخلية وخصوصا الاقتصادية.
كان من الأسلم لحركة حماس تسليم ملف المفاوضات لمنظمة التحرير والسلطة أو المطالبة بدور لها بدلا من المطالبة بضمانات أمريكية والإعلان المسبق رفضها اي تواجد للسلطة في غزة بعد الحرب.
إن استمرت المفاوضات بهذا الشكل وبهذه الأطراف دون إشراك الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول عربية ومنظمة التحرير فسيفرض نتنياهو كل ما يريد ومرور الوقت دون التوصل لوقف لإطلاق نار لن يخدم الفلسطينيين ولا غزة لأنه لا يبدو في المدى القريب اي مؤشرات لتغيير في موازين القوى مع العدو تدفعه لتقديم تنازلات أو تغيير مخططاته وخصوصا مع تراجع احتمال حرب اقليمية ومع توسيع حرب الإبادة إلى الضفة.
هروب الطرفان، حماس وإسرائيل، من عبثية المفاوضات إلى التصعيد العسكري في الضفة لن يخدم إلا الاحتلال بعد أن أطمئن الى غياب أي ردود فعل جادة لا دولياً ولا عربياً ولا من محور المقاومة ولا حتى من إمكانية تشكيل جبهة فلسطينية موحدة لمواجهته. والضرر الذي لحق بغزة والضفة وبالقضية عموماً خلال عشرة أشهر تقريباً من المفاوضات والمناورات والخداع بالحديث عن خلافات إسرائيلية داخلية أو خلافات مع واشنطن يفوق كثيراً ما لحق بها خلال مفاوضات أوسلو خصوصاً من حيث تدمير مقومات صمود الشعب على الأرض وتزايد مخاطر مخطط التهجير.
ثالثا: تصريحات مشعل حول العودة للعمليات الاستشهادية
تصريح خالد مشعل رئيس حركة حماس في الخارج بالعودة للعمليات الاستشهادية داخل فلسطين المحتلة يشكل تحولا وانقلابا على كثير من مواقف الحركة والتزاماتها الوطنية والخارجية.
في هذا السياق نبدي الملاحظات التالية:
- -لم يوضح إن كان يقصد عمليات استشهادية في كامل الأراضي المحتلة عام 1948 أم تقتصر على الأراضي المحتلة 1967، أيضا ما إن كان موقفاً شخصياً له أم موقف الحركة ككل، فإن كان موقفاً شخصاً فهذا يعني وجود انقسام داخل الحركة وأنها فقدت قدرتها على ضبط الأمور فيها، وإن كان يقصد أن العمليات في كل فلسطين المحتلة 48 وموقف الحركة ككل فسيضعنا ذلك أمام حالة جديدة سيكون لها تداعيات تتجاوز حركة حماس إلى القضية الفلسطينية كلها.
- تزامن التصريح مع ضعف سلطة حماس في غزة وحديث ابو مازن عن الذهاب لغزة وامتداد الحرب الشاملة للضفة الغربية يبيت نوايا بقلب الطاولة على ما فيها وتغيير المعادلات القائمة كليا.
- تراجع حماس عن كل مراجعاتها السابقة وسياسة الاعتدال التي حاولت الترويج لها عندما أعلن خالد مشعل رئيس للمكتب السياس آنذاك في الأول من يونيو 2017 عن وثيقة سياسية جديدة لحماس تحت مسمى (المبادئ والسياسات العامة) بدلا من ميثاق حماس الأول المتشدد.
- نهاية المفاوضات المباشرة وغير المباشرة بين الحركة واسرائيل حول حرب غزة واستمرارها بين إسرائيل ومصر فيما يتعلق بعلاقة بمحور فيلادلفي.
- انهاء أي مراهنة على مصالحة وطنية، فالتصريح خلق تباعدا في المواقف بين نهج السلطة ونهج حماس الجديد.
- اللجوء للعمليات الاستشهادية سيفرض تحديات جديدة على السلطة وخصوصا ان تبنت فصائل أخرى نفس النهج
- سيربك هذا التصريح علاقات حماس الخارجية وخصوصا مع بعض الدول التي كانت ترى أن حماس تتجه نحو الاعتدال. أيضا ستحرج أصدقاء حماس الأقربين مثل تركيا وقطر .
- ستوظف اسرائيل هذا التصريح في إعلامها الخارجي لتعزيز مزاعمها بأنها تحارب الإرهاب وأن الفلسطينيين يريدون قتل المدنيين الإسرائيليين
- سيوظف نتنياهو هذا التصريح داخليا للتهرب من عقد صفقة أسرى إلا بشروطه وسيوقف الحرب من طرف واحد بعد تنفيذ رؤيته لغزة بعد الحرب.
لا يعني كل ما سبق تحميل الشعب الفلسطيني أو فصيلا منه كامل المسؤولية عن حرب الإبادة أو عما آلت اليه الأمور من تدهور وما يواجه الشعب من تحديات، فإسرائيل وواشنطن تتحملان المسؤولية، ولكن ما سبق الإشارة له من أوجه التقصير والخلل تشكل عوامل مساعدة للعدو في تنفيذ أهدافه، هذا بالإضافة الى التراجع في المواقف العربية الداعمة للحق الفلسطيني ومتغيرات دولية غير مواتية حيث العالم منشغل بمشاكل وصراعات وحروب.