بعد أن ساعدت حركة حماس إسرائيل، بوعي أو بدون وعي، على تحقيق بعض أهدافها وأهمها الانقسام وفصل غزة عن الضفة وإبعاد الأنظار عما يجري في الضفة والقدس وإثارة الفتنة الداخلية وإضعاف منظمة التحرير ، وبعد ستة أشهر من حرب الإبادة على كل القضية الوطنية وانكشاف عجز العالم عن كبح جماح الكيان الإرهابي وإجباره على وقف الحرب، وبعد انكشاف وهم محور المقاومة والأنظمة التي كانت تراهن عليها حماس كحلفاء استراتيجيين: تركيا وقطر وإيران، وانحيازهم لمصالحهم القومية ولو على حساب القضية الفلسطينية… فإن حركة حماس ،ومعها الجهاد السلامي، تُصر على منح العدو مزيداً من الوقت لاستكمال حرب الإبادة باستمرارها بإطلاق الصواريخ من غزة وحديث قادتها في الخارج بأن المقاومة بخير ومستعدة للقتال لسنوات حتى تحقيق الانتصار!.
في بداية الحرب ومع نشوة (انتصار طوفان الأقصى) حددت حماس النصر الذي تسعى له بتحرير القدس والمسجد الأقصى، تبييض السجون، انسحاب العدو من كل القطاع ورفع الحصار وفتح المعابر وعن ميناء بحري. وإعادة الإعمار تحت اشرافها. مع اشتداد حرب الإبادة ومحدودية ردة فعل محور المقاومة الذي كانت تراهن عليه لتحقيق الانتصار العظيم والنهائي على دولة الكيان اليهودي، باتت قيادتها في الخارج تسعى لصفقة تبادل أسرى ودخول مساعدات إنسانية ووقف إطلاق النار. مع رفض الاحتلال لكل شروط ومطالب حماس لإنجاز صفقة هدنة ولو إنسانية بل وتعطيله المقصود للمفاوضات بهذا الشأن قلصت حماس شروطها لتقتصر على ما ذكر إسماعيل هنية، مع بدء جولة جديدة من المفاوضات في القاهرة 7/4، على انسحاب الجيش ووقف إطلاق النار وعودة سكان الشمال إلى بيوتهم، أي باتت مطالبها عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل مصيبة طوفان الأقصى مع ضمان استمرارها في حكم قطاع غزة، وكل ذلك مصحوباً باستمرار الحديث عن الإنجازات والانتصارات التي تحققها المقاومة وخصوصاً حركة حماس في الميدان.
والسؤال الذي يفرض نفسه ما معنى النصر أو الانتصار الذي كانت حركة حماس تتحدث عنه بعد كل حرب على غزة وتتحدث عنه الآن بعد كل هذا الخراب والدمار لغزة وأكثر من مائة ألف بين شهيد ومفقود ومثلهم من الجرحى؟ وعلى مَن ستنتصر؟ وهل استجابة العدو لشروط حماس الأخيرة يُعد انتصاراً؟
لا أحد يريد استمرار العدوان على غزة والجميع يريد وضع حد لحرب الإبادة، وبعد ذلك لكل حادث حديث، ولكن وبعد كل ما جرى أن تعتبر حركة حماس أن مجرد وقف حرب غزة وإعادة تمركز جيش الاحتلال إلى الأماكن التي كان فيها قبل 7 أكتوبر مع اجترائه لمناطق حدودية تحت مسمى مناطق عازلة، وحتى مع سماح العدو بعودة أعداد من المهجرين في الجنوب الى الشمال، أن تعتبر ذلك انتصاراً للمقاومة وإفشالاً لمخططات العدو فهذا ما لا يمكن السكوت عنه.
إن أخطر ما في المشهد أن حركة حماس باتت تتحدث عن وقف الحرب مع العدو في حالة وقف الحرب على غزة متناسية أن غزة ليست فلسطين وأن الصراع والحرب ليس ضد غزة فقط ولم يبدأ مع طوفان الأقصى بل ضد القضية الفلسطينية ومحاولة تصفيتها وما يجري في الضفة والقدس لا يقل خطورة عما يجري في غزة، ومجرد وقف حرب الإبادة على غزة لا يعني نهاية الحرب والصراع إلا إذا كانت حماس ترى في استقرار الأمر لها في القطاع نصراً ولا تريد أكثر من ذلك، أما القدس وبقية فلسطين فليس من اختصاصها و (للبيت رب يحميه). والأمر هنا لا يقتصر على حركة حماس بل نسمع من إيران وحزب الله والحوثي نفس الرأي فكلهم يقولون إن حربهم مع إسرائيل ستتوقف في حالة وقف الحرب على غزة! أما القدس والضفة وكل القضية الوطنية فخارج حساباتهم، وبعد مسرحية قصف إيران لإسرائيل قال المسؤولون الإيرانيون أنهم لا يريدون التصعيد وستتوقف المواجهة عند هذا الحد إن لم ترد إسرائيل!
لأن حركة حماس مصرة أنها حركة ربانية والربانيون لا يخطؤون لأن خطأهم من وجهة نظرهم تشكيك بالذات الإلهية، ومصرة أنها وحدها المقاومة وهزيمتها يعني هزيمة المقاومة وبالتالي ضياع فلسطين، فإن اعترافها بالخطأ غير وارد وستستمر بالمكابرة والمعاندة والحديث عن (إنما النصر صبر ساعة).
وفي حقيقة الأمر فإن معالم الانتصار الذي تسعى له بات واضحاً ومكشوفاً ولا علاقة له بتحرير فلسطين أو القدس ولا بإطلاق سراح الأسرى، النصر الذي تسعى لتحقيق حركة حماس ولو على أنقاض غزة وجثث آلاف الشهداء هو:
1- الانتصار على منظمة التحرير وتنصيب نفسها ممثلاً على ما تبقى من أرض وشعب. وهذا الهدف الرئيسي لقيامها منذ تأسيس المجمع الإسلامي في سبعينيات القرن الماضي.
2- الاحتفاظ بسلطتها في قطاع غزة حتى في ظل الاحتلال كما كان الأمر طوال السبعة عشر عاما الماضية.
ونعتقد أن العدو مستعد للقبول بهذا النصر لحماس بعد تطويعها حتى يحافظ على الانقسام وتعزيز الفتنة الداخلية، وهذان الهدفان ليسا جديدين بل كانا حاضرين منذ أن تأسس المجمع الإسلامي في السبعينيات ثم قيام حركة حماس في الثمانينيات من خارج منظمة التحرير الفلسطينية، آنذاك كثُرت التساؤلات حول سبب قيامها ومناهضتها لمنظمة التحرير وممارستها العمل السياسي والمقاوم بعيداً عن الإجماع الوطني، في الوقت الذي كانت فيه المنظمة محل تقدير واحترام وطني ودولي وتحقق إنجازات سياسية في المنظمات الدولية وعند الرأي العام العالمي وعدد الدول التي تعترف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً يفوق المائة دولة، وكانت إسرائيل وواشنطن يناصبان المنظمة العداء و يسعيان لتدميرها؟
لقد سبق وكتبنا مقالا تحت عنوان (حروب غزة خارج السياق الوطني) وبالفعل كانت، حيث كان للأجندة الخارجية وخصوصاً إيران دور فيها كما أنها حولت القضية من وطنية فلسطينية لقضية غزاوية، وقد أنجرت حركة حماس إلى لعبة الأمم في فلسطين والشرق الأوسط، وهي لعبة أو جملة مخططات تهدف لتصفية القضية الفلسطينية ومواجهة قوى التحرر العربي التقدمية وتدمير المشروع القومي العربي.
لقد زعمت حركة حماس أنها حررت قطاع غزة من الاحتلال الإسرائيلي بينما في حقيقة الأمر (حررت) القطاع من سيطرة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وليس من الاحتلال حيث استمر الاحتلال قائماً يضاف له الحصار، فهل إن (وحدة الساحات) وتشكيل (محور المقاومة) في مواجهة الاحتلال يتطلب نجاحه أولاً كسب المعركة في مواجهة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وحركة فتح؟ وهل تُغني هذه المحاور عن الوحدة الوطنية؟
والآن وبعد اتضاح محدودية ما يمكن أن يعمله محور المقاومة، وبعد أن قامت فصائل المقاومة في غزة بما تستطيع، وبعد كل هذا الخراب والدمار والموت الذي حرك العالم لنصرة الشعب الفلسطينية واستعادة حضور القضية دولياً، ما زالت الفرصة سانحة لتعيد حركة حماس حساباتها في المراهنة على الأجندة الخارجية، وتُعيد القيادة الفلسطينية أيضاً حساباتها في المراهنة على تسوية سياسية تقودها واشنطن، ومحاولة انقاذ ما يمكن إنقاذه من غزة والقضية كلها.