وكأنه لا يكفي أن تل ابيب وواشنطن تناصبان العداء لمنظمة التحرير الفلسطينية وتصنفانها كمنظمة إرهابية، ولا يكفي أن يعاديها ويرفضها أيضاً البعض الإسلاموي من منطلق أن المنظمة تعبر عن مشروع وطني بينما فلسطين بالنسبة لهم وقف إسلامي وملك للأمة الإسلامية وبالتالي فأصحاب (المشروع الإسلامي) أولى بتمثيل الشعب الفلسطيني وكل الشعوب الإسلامية!، وكأنه لا يكفي أيضاً التهميش الذي تعرضت له من طرف أصحابها عندما تم إعلاء شأن السلطة الوطنية على حساب المنظمة في مراهنة بأن زمن المنظمة كتجسيد وتعبير عن حالة الثورة والتحرر الوطني قد ولى وأن الشعب يمر بمرحلة تأسيس السلطة والدولة، وحسابات واستحقاقات السلطة والدولة تختلف وتتعارض مع حسابات الثورة .
كأنه لا يكفي كل ذلك ليتنطع البعض من الفلسطينيين والعرب للنبش في الماضي للتشكيك بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وبقرار قمة الرباط 1974 باعتبارها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني ويعتبرون ذلك مؤامرة لتجريد فلسطين من بعدها القومي العربي، ويزعمون أنه لو تركت فلسطين بيد الأنظمة العربية ما جرى للفلسطينيين ما جرى، بل وذهب البعض للزعم بأن الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني في قمة الرباط كان باقتراح من وزير الخارجية الأمريكية آنذاك هنري كسنجر للقادة العرب حتى يلجوا عملية التسوية السياسية دون أن يكونوا مكبلين بالمسؤولية عن الشعب الفلسطيني.
لا شك أن مسيرة الشعب الفلسطيني مع منظمة التحرير لم تكن كلها مكللة بالانتصارات والانجازات بل شهدت انتكاسات وأخطاء، كما أن واقع المنظمة اليوم مترد بسبب تهميشها وطنياً وترهل بنيتها المؤسساتية وعدم فعالية لجنتها التنفيذية، كما فشلت كل محاولات استنهاضها، ولكن هذا لا يبرر إسقاط الواقع الراهن للمنظمة على مبدأ وفكرة وشرعية تأسيس المنظمة، لأن الخلل كان وما زال في تحديات خارجية وفي الأدوات التنفيذية للمنظمة ومراهناتها وليس في مبدأ وشرعية ومبررات وجودها في مرحلة التأسيس.
منظمة التحرير ليست حزباً سياسياً وليست القيادة الراهنة وسياساتها بل هي تعبير عن الهوية والثقافة الوطنية وعنوان للشعب الفلسطيني ومشروعه الوطني التحرري الذي يمثل النقيض للمشروع الصهيوني ويميز الشعب الفلسطيني عن غيره من الشعوب ويمنع تذويبه في المجتمعات الأخرى، وبالتالي لا داع لإسقاط الحالة النفسية والعقلية للبعض المستاء والغاضب والرافض لقيادة المنظمة وسياساتها على منظمة التحرير بشكل عام، فالقيادة مجرد أداة تنفيذية يمكن تغييرها وتبديلها، كما أن السلطة أداة للمنظمة وللمشروع الوطني وليست بديلاً عنهما، وكان من الأولى على منتقدي المنظمة أن يناضلوا من أجل استنهاض المنظمة بدلاً من إطلاق رصاصة الرحمة عليها. .
مع التذكير بأن سبب معاداة إسرائيل وأمريكا لمنظمة التحرير الفلسطينية واتهامها بالإرهاب وتجفيف مصادر تمويلها لا يعود لأن منظمة التحرير تمارس الإرهاب أو أنها فاسدة كما تروج إسرائيل وأمريكا، ولا يمكن أن تكون كذلك وفي نفس الوقت يعترف بها أكثر من مائة دول في العالم، بل يعاديانها لأنها استنهضت الهوية والثقافة الوطنية للشعب الفلسطيني بعد أن كان مجرد جموع لاجئين ولأنها مؤسِسة المشروع الوطني التحرري ومنذ تأسيسها وهي تقارع الاحتلال بكل الوسائل العسكرية والسياسية والدبلوماسية، وكانت ويجب أن تستمر عنواناً لكل الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات وتتمسك بحقه بالعودة وإقامة دولته المستقلة.
لو لم يكن وجود المنظمة وتمثيلها لكل الشعب انجازاً وطنياً ما حاربتها إسرائيل طوال هذه العقود، ولو انساقت منظمة التحرير مع السياسة والمخططات الأمريكية والإسرائيلية وقبِلت بما كان يُطرح عليها من تسويات ما تم محاصرة المنظمة ورئيسها أبو عمار في المقاطعة 2002 ثم اغتياله بالسم، ولو انساقت المنظمة مع صفقة القرن وخطة الضم لكانت القضية الفلسطينية في وضع أسوأ مما هي عليه الآن.
ودعونا نتساءل ونسأل المشككين بشرعية ومبررات قيام المنظمة واعتبارها ممثلاً للشعب الفلسطيني، أولئك الذين ينطلقون من منطلق قومي أو إسلاموي، كيف كان الموقف الرسمي العربي تجاه فلسطين قبل 48 وما هو موقفها من الثورة الفلسطينية عام 1936-1939 وكيف خذلت الشعب الفلسطيني؟ وما جرى في حرب 1948 ؟ وماذا فعلت الأنظمة العربية لفلسطين بعد أن انتكب الفلسطينيون بهزيمة الجيوش العربية؟ وهل كان عند العرب استراتيجية قومية لتحرير فلسطين؟ ألم يقل الرئيس جمال عبد الناصر لوفد فلسطيني كان في زيارته عام 1962 (من يقول لكم أن عنده استراتيجية لتحرير فلسطين يضحك عليكم)، وهذا ما كتبه ووثقه المرحوم حيدر عبد الشافي.
ولو لم تكن منظمة التحرير موجودة واستمرت القضية بيد الأنظمة العربية التي انهزمت في نكسة 67 وكانت نتيجة هزيمتها ضياع بقية فلسطين بالإضافة إلى أراضي عربية أخرى ما زالت محتلة، فهل سيكون حال الفلسطينيون أفضل؟.
وعندما ترفع مصر أكبر دولة عربية وزعيمة العالم العربي بعد حرب 67 شعار استعادة الأراضي العربية المحتلة عام 1967 وتساندها في ذلك جامعة الدول العربية وتدخل مصر وسوريا في حرب أكتوبر 1973 تحت هذا الشعار، فهل كان للشعب الفلسطيني أن يراهن على الأنظمة العربية لتحرير فلسطين ؟
ونقول للذين يتباكون على فك تبعية القضية الفلسطينية للأنظمة العربية، أين هي هذه الأنظمة العربية التي يمكن المراهنة عليها لتحرير فلسطين؟ هل هي دول الخليج العربي؟ هل هي دول المغرب العربي؟ أم الدول التي انهزمت في حرب 1967 ؟ وهل فكر المنتقدون والمشككون والرافضون لمنظمة التحرير بما سيكون حال الشعب الفلسطيني لو استمر تابعاً وملحقاً بالأنظمة العربية التي نشاهد حالها بعد فوضى ما يسمى الربيع العربي ومع سياسة التطبيع ومع تواجد قواعد عسكرية أمريكية في غالبيتها؟
هذا لا يمنح قيادة منظمة التحرير والسلطة الوطنية شهادة براءة أو حسن سلوك وطني لا تشوبها شائبة، فالأخطاء والتجاوزات كثيرة بل يمكن القول إنه قبل أن تعلن حركة حماس الحرب على منظمة التحرير وبتزامن مع الهجوم الأمريكي والإسرائيلي عليها فإن قيادة منظمة التحرير أساءت، بوعي أو بدون وعي، للمنظمة وهمشتها، في مراهنة فاشلة على أن تحل السلطة محل المنظمة في سياق عملية التسوية السياسية والانتقال من مرحلة التحرر الوطني لمرحلة الدولة.
المطلوب من كل الحريصين على منظمة التحرير وعلى المشروع الوطني التحرري، سواء ممن ينتمون للمنظمة من فصائل معارضِة لنهج القيادة كالجبهتين الشعبية والديمقراطية أو ممن هم خارجها كحركتي حماس والجهاد، أن يعملوا على استنهاض منظمة التحرير والتمسك بالمشروع الوطني التحرري بثقافته وهويته الوطنية وليس الهروب نحو مشاريع بديلة غير وطنية ومحاولة إطلاق رصاصة الرحمة على المنظمة لأنهم بذلك يصطفون إلى جانب إسرائيل وأمريكا.
وفي خضم الحديث عن الانتخابات كان من الأجدر أن يتم البدء بالمجلس الوطني الفلسطيني لإعادة بناء وتأسيس واستنهاض المنظمة لتشمل الجميع وبعدها يتم الولوج بالانتخابات التشريعية والرئاسية، ولا ندري كيف يتم التوافق على انتخابات للشراكة في السلطة ولا يتم التوافق على المشروع الوطني والبرنامج السياسي الوحدوي!؟.