23-5-2008
بالرغم من كل التصريحات والمؤشرات التي تقول بأن التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين والتي مر عليها حوالي خمسة عشر عاما قد فشلت أو وصلت لطريق مسدود، فإن مفاوضات مباشرة ما زالت متواصلة بين الطرفين وهدنة غير مباشرة في طريقها للإنجاز في قطاع غزة، فما مفهوم الفشل والنجاح ؟وهل يمكن لخيار التسوية السلمية أن يفشل في ظل غياب البديل؟ .الحكم على الفشل والنجاح ينطلق من مغالطة بأن القوى التي رعت التسوية وخصوصا الولايات المتحدة كانت راغبة بالفعل في إنجاز تسوية تؤسس لسلام عادل يلبي الحقوق الوطنية الفلسطينية – دولة في الضفة وغزة وعاصمتها القدس الشرقية مع إيجاد حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين-. وعليه فإن الفشل من وجهة نظر القائلين بذلك يعني عدم تحقق هذا الهدف، مع أن هذا الهدف لم يتم ذكره في أي من الاتفاقات الموقعة ولم تلتزم إسرائيل أو واشنطن بأي يوم من الأيام بتحقيقه أو وعدتا به، حتى ضمن الحد الأدنى وهو توفير المناخ الضروري لتحقيق ذلك.وحتى نفهم حقيقة التسوية بعيدا عن رومانسية خطاب السلام وربط بداياتها بما يجري اليوم من مفاوضات على مصير ما تبقى من الضفة وهدنة في غزة لا بأس بان نُذكر بملابسات انطلاق مسلسل التسوية:-
1- كانت فكرة التسوية والسلام ناضجة عند الأوروبيين والاتحاد السوفيتي ولم تكن كذلك عند الأمريكيين والإسرائيليين، وبالتالي فإن مصادرة واشنطن لفكرة السلام ووضعها تحت وصايتها لم يكن نتيجة رغبة حقيقية بتحقيق السلام العادل بقدر ما كان يهدف لقطع الطريق على الأوروبيين وغيرهم للعب في ساحة الشرق الأوسط، وذلك يدخل ضمن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة المتطلعة لبناء نظام دولي جديد وتقليص النفوذ الأوروبي والسوفييتي (الروسي لاحقا )في الشرق الأوسط، وخصوصا أن واشنطن كانت تستعد لخوض حرب الخليج الثانية.
2- لم تقم التسوية على أسس ومرجعيات واضحة، حيث كان شعار (الأرض مقابل السلام )الذي ظلل فكرة التسوية وشجع دعاة السلاموالملغومة،ددين للصمت، شعارا براقا، فماذا يريد الفلسطينيون والعرب أكثر من استعادة الأرض المحتلة وماذا تريد إسرائيل غير السلام ؟إلا أن فرض نهج تعدد المسارات في مؤتمر مدريد وما أدى من تفرد إسرائيل بالفلسطينيين ثم نصوص اتفاقية أوسلو المبهمة والملغومة، أفقد شعار الأرض مقابل السلام معناه وجدواه.
3- لم تؤسس العملية السلمية وخصوصا اتفاقية أوسلو على الشرعية الدولية بشكل واضح، بل اعتمدت على إشارة لقراري 242 و338 دون بقية قرارات الشرعية الدولية، بل يمكن القول بأن هذه الاتفاقية التفاف وتجاوز للمرجعيات الدولية، وبالتالي أضعفت الاتفاقية من قوة حضور وتأثير الشرعية الدولية.
4- غياب استراتيجية سلام عند طرفي المعادلة، حيث دخل الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني التسوية دون نضوج الشروط الذاتية والموضوعية للسلام، فهناك فرق بين من يدخل تسوية ضمن منطق فلندخل ونجرب وبين من يؤمن بالسلام، إسرائيل دخلت التسوية دون إيمان حقيقي بالسلام لان ما كانت ترمي إليه هو الأمن وليس السلام، والفلسطينيون المنضوون في إطار منظمة التحرير – وخصوصا الراحل ياسر عرفات – دخلوا التسوية ولديهم رغبة حقيقية بالسلام والتسوية على أساس الشرعية الدولية ولكنهم افتقروا لاستراتيجية واضحة للسلام وخصوصا مع تعمق الخلاف ما بين السلطة وحركة حماس مع بداية مرحلة الحكم الذاتي.
سواء أسميناه فشلا أم تعثرا أم إدارة مغايرة للأزمة.، فقدد بات من الصعب وإن لم يكن مستحيلا عودة الأمور لما كانت عليه قبل انطلاق مسلسل التسوية، لأن واشنطن وتل أبيب أخذا في الحسبان بداية أن الفلسطينيين سيكتشفون حقيقة ما يحاك لقضيتهم الوطنية تحت شعار التسوية وبالتالي قد يرتدون عنها، وعليه خلقت واشنطن وإسرائيل وقائع ومناخا سياسيا لقطع طريق العودة، وهي كما يلي.:-
1- واشنطن التي تحكمت بمسار المفاوضات وبإدارة ألازمة لا تريد أن تظهر بمظهر الفاشل في تحقيق السلام العادل مع إنها غير راغبة فيه، وهذه مفارقة ولكنها ليست غريبة عن عالم السياسة الواقعية لواشنطن التي تقوم على إدارة الأزمات الدولية بدلا من حلها ما دام استمرار الأزمة يخدم مصالحها.
2- لم تبرز قوى دولية يمكنها انتزاع زمام مبادرة السلام من يد واشنطن، بل إن اللجنة الرباعية أصبحت مهمشة وملحقة بواشنطن فيما كان يفترض حسب تمثيلها للاتحاد الأوروبي والروس والأمم المتحدة وواشنطن أن ترعى العملية السلمية بدلا من تفرد واشنطن بها.
3- الوقائع التي فرضتها إسرائيل على الأرض كالاستيطان المتعاظم والمستمر وبناء الجدار وتهويد القدس والطرق الالتفافية والحواجز، جعل عودة الأمور لما كانت عليه بمجرد الإعلان عن فشل التسوية أمرا مستحيلا.
4- وجود سلطة ومؤسسات وحكومة فلسطينية تقوم بمهام يفترض أن تقوم بها دولة الاحتلال سواء تعلق الأمر بالمسؤولية عن إعاشة الشعب الخاضع لاحتلال أو فرض النظام والقانون، مما جعل الاحتلال لا يشكل عبئا على الإسرائيليين,
5-تحويل الشعب الفلسطيني لجموع بشرية دون مشروع وطني، جموع تعيش على راتب السلطة والمساعدات الخارجية التي تستمر ما استمرت السلطة وحكومة فياض ملتزمتين بالتسوية وبالمفاوضات بغض النظر عن الممارسات الإسرائيلية المدمرة لفرص السلام وللمشروع الوطني.
5- تحوُّل النخب السياسية الوطنية لنخب مصالح ومشاريع اقتصادية مرتبطة بإسرائيل وبدول الجوار ودول خارجية، بحيث أصبحت هذه النخب التي يفترض أن تحمل وتحمي المشروع الوطني معنية بالحفاظ على مصالحها وامتيازاتها وليس الدفاع عن المشروع الوطني أو التصادم مع سلطات الاحتلال.
6- انقسام حاد وغير مسبوق في الصف الفلسطيني، نتج عن التدخلات الخارجية سواء ما قامت به إسرائيل وواشنطن من صناعة لقيادات سياسية بل ولمجموعات مسلحة، أو التدخلات باسم البعد القومي أو الإسلامي للقضية الفلسطينية. هذه التدخلات ألغت استقلالية القرار الوطني وجعلت المشروع الوطني مجرد لغو.
7- فصل غزة عن الضفة الغربية وقيام حكومة بكل منطقة معادية للأخرى وتسعى لشرعنة وجودها على حساب وحدة الشعب والأرض.
8 -الاستعداد لتهدئة ما بين إسرائيل وحماس في غزة ستمهد لاحقا لنوع من التعايش السلمي والاعتراف الواقعي بين الطرفين وتأبيد حالة الفصل ما بين الضفة وغزة.
9- استمرار المفاوضات بين السلطة والحكومة في رام الله من جانب وإسرائيل من جانب أخر والحديث عن فرص للتوصل لاتفاق إطار أو إعلان مبادئ جديد ونعتقد انه سيركز على ما تبقى من الضفة دون غزة.
10-فشل الفلسطينيين في بناء استراتيجية عمل وطني سواء على مستوى قيادة وحدة وطنية أو استراتيجية مقاومة تملأ الفراغ الذي قد ينتج عن انهيار التسوية أو حل السلطة.
من كل ذلك يمكن الاستنتاج بأن القوى المتحكمة بمسار عملية التسوية لن تعلن عن فشلها،حتى السلطة الفلسطينية والحكومة لن تقدم على ذلك حيث لا بديل عندهم، عليه،فإن ما يجري ،حتى وإن بدا خارج سياق التسوية فهو جزء من عملية إعادة صياغة التسوية حسب الرؤية الأمريكية والإسرائيلية، أو فلنقل بأن التسوية أصبحت كالحرباء تغير مصطلحاتها وأسسها حسب تغير الظروف والأحوال وحسب الديناميكيات التي تولدها التسوية نفسها.ما جرى ويجرى منذ الخروج من غزة عام 2005 والحصار ثم الانقلاب فالتهدئة كل ذلك جزء من التسوية، إنه نتاج لمخطط تم الاشتغال عليه لتغيير طبيعة التسوية والالتفاف على الحقوق الوطنية. وعليه يمكن القول بأن التهدئة التي هي في طريق الإنجاز على حدود قطاع غزة لا تندرج ضمن استراتيجية المقاومة أو تشكل عائقا لمسار التسوية الجارية بل ستصبح جزءا منها أو من التحويرات التي طرأت عليها، وإن كانت إسرائيل تبدى ممانعة وتحفظا حول التهدئة فهي في حقيقة الأمر راغبة بها ليس خوفا من الصواريخ المنطلقة من غزة، فهذه لم تكن يوما مهددة للأمن الاستراتيجي الإسرائيلي وهناك طرق عدة يمكن لإسرائيل اللجوء لها لإيقافها، بل تريد التهدئة لأنها تعني تثبيت القطيعة ما بين الضفة والقطاع وإضفاء شرعية على حكومة الأمر الواقع بغزة وخصوصا أن التهدئة تأتي ضمن صفقة تشمل فتح معبر رفح وربما تبادل أسرى، وكل ذلك يجعل نجاع التسوية والمفاوضات على ما تبقى من الضفة أيسر منالا من وجهة النظر الإسرائيلية .
بقدر ما نتمنى نجاح تهدئة ترفع المعاناة عن أهلنا بالقطاع وتمكنهم من حياة كريمة، بقدر ما نتخوف من توظيف هذه التهدئة لتكريس القطيعة بين الضفة وغزة ولتدمير ما تبقى من أمل بمشروع وطني يشمل الضفة وغزة.وأخشى ما نخشاه أن تؤول الأمور لدولة -أو كيان سياسي بمواصفات خاصة- في قطاع غزة تحت عنوان الدولة ذات الحدود المؤقتة ويُترَك مصير الضفة لمفاوضات عبثية ستتفرغ خلالها إسرائيل لمزيد من الاستيطان وسيتم تجريد الحكومة هناك–إذا استمرت كحكومة تكنوقراط- من أي مهام سياسية ووطنية وتقتصر مهامها على تقديم الخدمات البلدية والحياتية للمواطنين وبمهام الأمن الداخلي المحدود بالتنسيق مع الإسرائيليين والأمريكيين.