استشكالات الدين والسياسة في فلسطين

20 يناير 2016آخر تحديث :
استشكالات الدين والسياسة في فلسطين
 
مقدمة
أينما يممت النظر في ربوع الشرق الأوسط وخصوصا في العالم العربي إلا واصطدمت بحروب أهلية وصراعات مذهبية وطائفية تهدد وحدة الأمة ووحدة الدولة الوطنية. فمنذ ظهور جماعات الإسلام السياسي لم تعد الأمة هي الأمة ولا الوطن هو الوطن ولا المواطن هو المواطن . انقلبت مفاهيم العداوة والصداقة ، أصبح المسلم عدو المسلم والعربي عدو العربي والجار عدو جاره بل الأخ بات يناصب أخاه العداء،وأصبح (العدو القريب أولى بالجهاد من العدو البعيد)، وأصبح الأمريكان والغرب أهل كتاب يجوز التحالف معهم لمحاربة (المسلمين المرتدين) من قوميين ويساريين وعلمانيين . بتنا نعيش زمن صعود جماعات إسلام سياسي استطاعت توظيف نفوذها المالي ودقة وسرية تنظيمها وسياستها البراغماتية التي تؤسس لتحالفات غير مبدئية من اجل الوصول للسلطة على حساب الدولة الوطنية والثقافة الوطنية والوحدة الوطنية، وأصبحنا نعيش زمن تجري فيه عملية أدلجة وتسييس فظ للدين الإسلامي بما يُخرجه عن روحانيته وجوهرة المتسامح والمنفتح.
ما كان كل ذلك يحدث لولا تراجع الأيديولوجيات القومية والماركسية والثورية ،وأزمة الدولة الوطنية ،وفشل النخب الحاكمة وغير الحاكمة في عملية الانتقال الديمقراطي، ولولا الجهل والفقر ،التربة الخصبة لترعرع التطرف والتعصب الدين . وحيث إن السياسة لا تعرف الفراغ فقد فرضت الجماعات الإسلامية نفسها على المشهد السياسي من خلال العمل الاجتماعي والإغاثي حينا ، وبالعنف أحيانا، وبتواطؤ مع الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة حينا آخر،وبتوظيف آليات الديمقراطية أخيرا كما جرى في تونس وفي مصر بعد ثورة 25 يناير 2011 ، مع تعاون وتنسيق خفي حينا وظاهر حينا آخر مع الغرب وعلى رأسه واشنطن وهو ما تجلى فيما يسمى بالربيع العربي .
يحدث كل ذلك على حساب القضايا الاقتصادية والتنموية المستعصية من فقر وجوع وتخلف معمم في قطاعات الصحة والتعليم والسكن الخ. خلال ثلاثة عقود تقريبا من حالة الفوضى والخراب التي تشهدها غالبية الدول العربية واستنزاف مقدرات وثروات الأمة في حروب ومؤامرات لم يستفد منها سوى أعداء الأمة من غربيين وإسرائيليين، تعيش الولايات المتحدة عصرها الذهبي وتنتشي إسرائيل فرحة لأنها لم تعرف هدوءا على جبهاتها مع العرب كما تعرفه اليوم ،كيف لا وقد انشغل دعاة الجهاد والمقاومة بالصراع من أجل السلطة ومواجهة أنظمة وحكومات عربية لإسقاطها والحلول محلها.المشكلة بطبيعة الحال ليست في الإسلام كدين بل في جماعات صادرت الدين الذي هو ملكية مشتركة لكل المسلمين لتحوله لملكية خاصة بها بعد أدلجته وتسييسه بما يتناسب مع مصالحها وتطلعاتها السلطوية أو مصالح حلفائها الغربيين.
وسط كل ذلك صُيرت القضية الفلسطينية أرضا وشعبا كبش فداء المرحلة ،حيث تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية رسميا وشعبيا ولم يقتصر الأمر على ذلك بل عدنا لزمن كنا نعتقد انه ولى ، زمن توظيف القضية الفلسطينية لخدمة أجندة ومشاريع خارجية ، وتغلغل الانقسام الذي تشهده الدول العربية والإسلامية ما بين مشروع إسلامي ومشروع وطني أو قومي إلى الساحة الفلسطينية في تجاهل لخصوصية أن الشعب الفلسطيني يخضع للاحتلال وظروفه لا تسمح بالدخول في جدل الإسلامي والوطني بل يحتاج لجبهة وطنية يتم فيها توطين كل الأيديولوجيات، ففي فلسطين ليس مطلوبا إقصاء الدين من الصراع مع إسرائيل ولا إقصاء جماعات الإسلام السياسي الفلسطينية – حماس،الجهاد الإسلامي،حزب التحرير والسلفيين – بل المطلوب توظيف الدين في إطار إستراتيجية وطنية بعيدا عن حسابات السعي للسلطة أو الارتباط بأجندة خارجية،والمطلوب أن توَطِن جماعات الإسلام السياسي أيديولوجيتها لتصبح جزءا من المشروع الوطني التحرري لا أن نلحق هذا المشروع بمشاريع وأجندة خارجية حتى وإن كانت تزعم أنها إسلامية.
سنقارب استشكالات الدين والسياسة في فلسطين من خلال المحاور التالية :
المحور الأول : استشكالات الدين والسياسة في العالم العربي
المحور الثاني : استشكالات الدين والسياسة في فلسطين –معادلة مختلفة-
المحور الثالث : حركة حماس وإشكالية الوطني والإسلامي

المحور الأول
استشكالات الدين والسياسة في العالم العربي

أولا : الدين بين العقلنة والأدلجة
عندما يتداخل الدين مع السياسة وتتنطع جماعات (إسلامية) لممارسة السياسة حينئذ فنحن لا نتحدث عن المقدس الديني بل عن ممارسات وسلوكيات سياسية عليها أن تخضع لقواعد وقوانين العمل السياسي لا أن تحتمي بقدسية موهومة ومصطنعة. كل فعل سياسي على مستوى القرارات المصيرية للأمة يجب أن يؤَسَس على العقلانية والواقعية وليس على الايدولوجيا والأساطير والتاريخ غير التاريخي.عندما تؤسَس السياسة على الأيديولوجيات والدين المؤدلج المنسلخ عن أصوله ومعانيه الأولى تفقد السياسة معناها وتتصير سياسة بلا قوانين وبلا مرجعيات مضبوطة ويصبح مصيرها مرتبط بمصير الأيديولوجيا ومن يَنظُم مقولاتها من أحزاب وزعامات ورجال دين جهلهم بالدين لا يقل عن جهلهم بالسياسة.
أسوء السياسيين والأحزاب السياسية هم الذين يُغلبون الايديولوجيا على العقل – عندما يتحول الدين لأحزاب دينية يصبح أيديولوجيا وتسقط القدسية عن هذه الجماعات بشخوصها وفكرها- ، ذلك أن المصالح الوطنية العليا والفعل السياسي المؤسِس لها والمحافظ عليها، لا تقوم إلا على العقلانية السياسية، ولو عدنا لتاريخ الشعوب لوجدنا أن الشعوب التي احتكمت للعقل والعقلانية هي التي أسست الحضارات وكُتب لها الدوام،أما الشعوب التي انساقت وراء الأيديولوجيا أو حولت الدين لأيديولوجيا يتلاعب بها القادة والسلاطين وفقهاؤهم فقد تراجعت مكانتها وبعضها تعرض للانهيار والزوال .
لا يعني هذا رفض مطلق لكل الأيديولوجيات، فقد لعبت أيديولوجيات دورا مهما في مراحل تاريخية من حياة الشعوب وخصوصا عندما عبرت عن ثقافة وهوية شمولية لأمم تستنهض قواها في مواجهة تحديات خارجية. الخلل يكمن في الأيديولوجيا عندما تتحول لوعي كاذب للواقع وتحريف صارخ للدين.السياسة الواقعية يمكن أن توظف الايديولوجيا بكل تلاوينها الدينية والدنيوية لاستنهاض المشاعر وكل الرموز المستبطنة لتحويلها لمحفزات لبناء القوة الذاتية وكأداة في لعبة موازين القوى،دون أن تصبح أسيرة لها .
التبس مفهوم الواقعية العقلانية بمفهوم الاستسلام للأمر الواقع ،كما تصور البعض أن العقلانية وخصوصا السياسية منها تتعارض بالضرورة مع الدين كمكون مجتمعي وثقافي ،وهذا تقويل وتلبيس لا أساس له من الصحة،فالعقلانية ببساطة نمط تفكير ونهج عقلاني في الممارسة السياسة تقوم على فهم الواقع وموازين القوى التي تحكمه والبيئة الداخلية والخارجية المؤثرة فيه، وتعني التحرر من التفكير الميتافيزيقي والأسطوري وما أقام من منظومات ونظم ثقافية و سياسية،وبالتالي ارتبطت الواقعية العقلانية في مسار التطور التاريخي للأمم بوجود قيادة سياسية قومية تتمتع ببصيرة وتعرف ما تريد، وبمشروع سياسي قومي(وطني) يشكل الحاضنة لهذه السياسة والقيادة. لو عدنا لتاريخ الواقعية والعقلانية السياسية في الغرب مع عصر النهضة ثم الأنوار والذي جاء على أنقاض فكر وأوضاع القرون الوسطى، سنلاحظ تساوق التفكير العقلاني والواقعي المتحرر من الميتافيزيقا والايديولوجيا والتاريخ مع ظهور النزعة القومية بما هي تَطلّع كل شعب ليعبر عن هويته وشخصيته في إطار دولة خاصة به ،أي مواكبا لوجود مشروع قومي (وطني) محل توافق غالبية طبقات وفئات الشعب.
إن علاقة جدلية تقوم ما بين ظهور الدولة الوطنية والعقلانية السياسية ، فما كانت أوروبا ستخرج من عصر الظلمات، وما كانت العلمانية كمظهر من مظاهر العقلانية إن لم تكن هي العقلانية السياسية ، وما كانت الثورة الصناعية لتكون، لو لم تظهر النزعة القومية ثم الدولة القومية المتحررة من أممية الكنيسة، بل حتى الديمقراطية ما كانت ستأخذ السيرورة التي صيرتها ما هي عليه اليوم لولا التحالف ما بين الدولة القومية كحيز جغرافي والعقلانية كمنظومة ثقافية وفكرية .
هذا لا ينفي أن شعوبا غربية أخرى سارت في سياق مختلف كالولايات المتحدة الأمريكية ،فهذه الدول لم تمر بنفس سيرورة تطور الدولة والأمة في أوربا فحتى اليوم ما زالت في مرحلة بناء الدولة القومية،وكذلك دول أسيوية كالهند وباكستان،ولكن الديمقراطية و دولة المؤسسات والقانون التي قامت على العقلانية السياسية واحتضنتها عوضتها عن الدولة القومية الخالصة.
في التجربة السياسية العربية الإسلامية ستتشيأ الدولة والسياسة و يتشكل العقل السياسي بشكل مغاير، حيث العلاقة بين العقل والدولة والدين أخذت سياقا مغايرا من حيث الشكل والمضمون والسياق التاريخي. ففي الوقت الذي أخذت فيه الواقعية والعقلانية السياسية شكل تمرد الشعوب الأوروبية على التاريخ السياسي للقرون الوسطى باعتباره متعارضا مع العقلانية وتمرد على العقل الفقهي السياسي المسيحي الذي شكل حالة خارجة عن النص المقدس والمسيحية الحقيقية ، وفي الوقت الذي وجدت أوروبا في الدولة القومية العلمانية الإطار الذي يجمع ويوفق ما بين السياسة التي تقوم على الواقعية والعقلانية ،والفكر الوضعي ، والمسيحية الحقيقية (النص المقدس) التي تقبل بلعب دور الخادم للدولة القومية المُجسدة لإرادة الأمة،في هذا الوقت كان المسلمون يؤسسون لمفهوم للأمة وللدولة لا يستمد من نصوص مؤكدة من القرآن والسنة ، ولا من إرادة الأمة والعقد الاجتماعي ولا من العقلانية،فهذه أمور لم تكن معروفة في الفقه السياسي ولا في التاريخ السياسي. حتى من حاول من علماء المسلمين– كابن رشد – استحضارها من الثقافة السياسية اليونانية ومن فهم عقلاني للقرآن،حيث للعقل حضور أكبر مما هو في التاريخ السياسي والفقهي كما يذهب كثير من المفكرين المسلمين ،فقد ووجه بعنت شديد .
طوال أكثر من ألف عام والمسلمون والعرب يعيشون أزمة دولة وسلطة وعلاقتهما بالدين ، وغموض في علاقة العقل بالنقل أو الإيمان والعقل، هذا ناهيك عن غموض في المفهوم الإسلامي للأمة وعلاقته بالوطنية والقومية. أكثر من ألف عام والعقل السياسي العربي والمسلم تائه وغارق في تجريبية لا توصِل لليقين بقدر ما تعمق من الإشكالات المطروحة، حتى محاولات مصلحي عصر النهضة العربية لاستعادة العقل والعقلانية وإيجاد حالة مصالحة بين مقتضيات العصر والإسلام ومشروع الدولة القومية العربية باءت بالفشل لأسباب داخلية وأخرى خارجية ، وليس الحاضر بالأفضل حيث تأخذ محاولات استنهاض الحالة العربية والإسلامية شكل الرجوع للتاريخ الإسلامي ولفقه إسلام سياسي لا يعبر عن الإسلام الحقيقي إن لم يكن معاديا له.ومن اللافت للانتباه أن ما تسمى اليوم بالصحوة الإسلامية، وخصوصا ما يندرج منها تحت مسمى الإسلام السياسي، تعيش حالة انقسام وفرقة حتى أن ما يفرقها أحيانا من تصورات وتفسيرات واجتهادات دينية لها تمظهرات سياسية، أو خلافات سياسية بأبعاد دينية،أكثر مما يوحدها ويجعل منها كتلة واحدة في مواجهة عدو مشترك،وهي الاختلافات التي تتمظهر اليوم في تباين مواقفها من الدولة والسلطة والديمقراطية والقوانين الوضعية الخ.
صيرورة الواقعية العقلانية ممارسة سياسية على مستوى الأمة تحتاج أربعة مرتكزات:
1- العقل والعلم كمرجعية فكرية متجاوزة أو سابقة في الأهمية للأيديولوجيا والأسطورة وللتاريخ السياسي .
2- توافق وطني أو قومي على ثوابت أو مرجعيات وطنية أو قومية .
3- قيادة حكيمة عقلانية في فكرها وثقافتها السياسية .
4- توافق وطني على دور وموقع ووظيفة الدين في المجتمع والدولة.
لا يعني ذلك أنه في حالة وجود هذه العناصر المُشَكِلة للعقلانية الواقعية في أكثر من بلد سنكون أمام أنظمة ومجتمعات متشابه ،ذلك أن لكل أمة عقلانيتها،وعقلانية الأمة لا تنفصل عن ثقافتها ومصالحها القومية ، فللولايات المتحدة الأمريكية عقلانيتها كما لليابان عقلانيتها ،ولإسرائيل عقلانيتها كما لتركيا والصين والهند عقلانيتها،وفي حالة الشعوب الخاضعة للاحتلال كالحالة الفلسطينية فالعقلانية تعني وجود إستراتيجية واحدة وقيادة واحدة في إطار مشروع تحرر وطني ،فالمقاومة تحتاج لممارسة واقعية عقلانية والتسوية والسلام أيضا فعل عقلاني واقعي .
ثانيا : مشكلة الإسلام في (المسلمين) – ضرورة تحرير الإسلام من جماعات الإسلام السياسي –
لم يكن استحضار الرب أو المقدس غائبا في يوم من الأيام عن الحياة الاجتماعية لدى شعوب الشرق عامة، فالشرق هو عالم الروحانيات كما يقول الغربيون، انطلاقا من كونه منبع الديانات السماوية، إلا أن الاستحضار المكثف للرب (المُتَخَيل وليس الحقيقي) وجعله مرجعية لبعضهم، للتحريم والتحليل، ولإضفاء المشروعية على الوضع القائم أو تجريده منها، أخذ اليوم شكلا أكثر حدة، وخلق حالة من الترعس الديني الجماعي جعلت كل الأوضاع القائمة، سياسية واقتصادية واجتماعية، أنظمة وإيديولوجيات وعلاقات، يعاد النظر فيها وتخضع لعملية تقييم جديدة، ليس على أساس شرعيتها القانونية أو الشعبية، بل على أساس مدى ما يربطها بالشريعة الإسلامية وتعاليم الرب، كما يحدد معالمهما أصحاب التيار الديني، من أنظمة ثيوقراطية Theocracyوحركات سياسية دينية.
فأينما يممت وجهك اليوم تصطدم بالدين: فإذا تحدثت عن السياسة والديمقراطية، عليك أن تجد صلة بينهما وبين الإسلام ، وإذا تحدثت عن الاقتصاد والتنمية فيجب استحضار موقف الدين من هذه الأنشطة وتحديد المحرم والمحلل منها، وإذا تحدثت عن الأسرة والزواج فإنهما أكثر الموضوعات إثارة للجدل، وكأن الرب لا هم له ولا شغل له إلا المرأة وما تلبس وكيف تلبس وطبيعة علاقتها بالرجل وبالمجتمع، وعمم على ذلك مختلف أنشطة الحياة، فالمسلمون من أكثر المجتمعات احتفالية بدينهم.ولكن هناك فرق بين الدين والتدين وخصوصا إن أخذ طابع التطرف ،وبين الإسلام والمسلمين.
التطرف الديني تصرف لا عقلاني، بينما الإسلام في مغزاه العميق الروحي والأخلاقي تصرف عقلاني ، وكلما تمت عقلنه الواقع بجعله قائما على العدل والإنصاف واحترام إنسانية الإنسان وحقوقه، نُزِعت من المتطرفين دينيا صواعق تفجيرهم التي تحولهم إلى ممارسي سلوك متطرف غير عقلاني. كلما جعلنا الحاضر أفضل من الماضي الذي تتقمصه بعض الحركات الأصولية وتجعله نموذجا لما يجب أن يكون، وكلما أصبحت المجتمعات المسلمة أكثر قدرة على التحكم في واقعها وعلى التحرر من عوامل الهيمنة والاستلاب التي تحكم علاقتها بالمجتمعات الأخرى كلما قلت الحاجة إلى الاستنجاد بالماضي وبالسلف الصالح، وانتفى مبرر انتشار النزعة الدينية المتطرفة.
الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تفجر ظاهرة التطرف واحتدام الصراع بين “الأصوليين” ومعارضيهم، هي أسباب دنيوية لها علاقة بالصراع على السلطة و بمشاكل ترتبط بالجهل والفقر والبطالة والهيمنة الأجنبية، والإحباط واليأس المسيطر على الشباب، أي أنها غير مرتبطة مباشرة بالأيمان بالله أو عدم الأيمان به، أو بأن نكون مسلمين أو غير مسلمين. المشكلة تكمن في المسلمين أنفسهم وبالثقافة السائدة التي أحيانا تتفوق في تأثيرها على الدين أو توظفه لمقتضياتها. تركيز بعض الحركات الإسلامية وخصوصا العربية الجانب السلوكي والطقوسي من الدين لا يعبر عن حقيقة المشكلة ولن يساعد على حلها، لأنه ببساطة لا يتعامل مع جوهر المشكلة .
حتى في الجانب الديني الإيماني فحيث إننا لسنا في زمن الأنبياء والرسل والقديسين، وهذه الحركات لا يمكنها أن تدعي أنها على اتصال برب العالمين أو أنها تحتكر السر الإلهي، ولا تدعي أنها جاءت بآية قرآنية جديدة أو بحديث نبوي جديد، إذا فهي تسعى لتوظيف واستحضار الدين والمقدس الذي هو للجميع من أجل أهداف سياسية واجتماعية أو اقتصادية، أي دنيوية بشكل عام،أو بصيغة أخرى إنها تصادر أو تستولي على ما هو عام – الدين الإسلامي – وتوظفه لمصالحها الشخصية.
لا غرو أن توظيف الدين لصلاح الدنيا ليس بالأمر الخطأ بل هو أساس وهدف الدين ولكن يجب عقلنته من خلال إعادة النظر، ليس في الدين بحد ذاته، ولكن في الموضع الذي يحتله في المجتمع. كان للدين كعنصر استقطاب وتميز عن الآخر وكقيم أخلاقية وروحية دور مفصلي عبر التاريخ في معارك الشعوب ضد أعدائها وفي استنهاض الهمم وشحنها، إلا أن هذا الدور للدين ما كان يمكن أن يكون لولا وجود قيادة عاقلة تُحْسِن توظيف الدين في هذا المجال، ولولا وجود مجتمع نشط ومبدع وفاعل، ووجود مثقفين وعلماء ليسوا أدوات في يد السلطة السياسية، أي لولا توافر شروط موضوعية -سياسية اقتصادية اجتماعية- تهيئ المناخ المناسب للدين ليلعب هذا الدور.
الفرق بين مسيحية أوروبا في عصر الظلمات ومسيحيتها في عصر الأنوار، ليس اكتشاف كتاب مقدس جديد أو نص ديني غاب عن الأولين، وليس في تخلي أوروبا في عصر الأنوار وما بعد عن الكتاب المقدس، ولكن الفرق يكمن في تغيير العقليات و ظهور طبقات ونخب جديدة تمردت على تجهيل المجتمع باسم الدين وعلى احتكار الدين من قلة تحتكره وتنصب نفسها وسيطا بين البشر والسماء ،وأضفت هذه النخب الجديدة معنى وقيمة ودورا مختلفا من خلال إعادة موضعة الدين ودوره في المجتمع. والأمر نفسه بالنسبة إلى الحضارة العربية الإسلامية. ففي ظل الإسلام -قرآن وسنة- شيد المسلمون حضارة من أعرق الحضارات، وفي ظل الإسلام نفسه -قرءان وسنة- وصل العرب والمسلمون إلى الحضيض، فالخلل إذا ليس في القرآن والسنة، ولكن في البشر المتعاملين معهما، الخلل في نظم وقيادات ومؤسسات ومثقفين، الخلل أن أشخاصا محددين احتكروا (السر الإلهي) ووظفوا الدين ليس في خدمة الرب ولا في خدمة البشرية ولا في خدمة شعوبهم أو غالبيتها، لكن في خدمة مصالح شخصية وفئوية ضيقة.
إذا، في ظل المأزق الذي تمر به الأمة العربية اليوم، وفي ظل الهجمة الاستعمارية والصهيونية الشرسة لإفقاد العرب ما تبقى لديهم من منعة وعزة وكرامة، يمكن توظيف الدين ليكون عنصر قوة ومنعة، عنصر توحيد واستنهاض للهمم، ليقوم بما عجزت عن القيام به الأنظمة والأيديولوجيات المنهارة، ولكن ليس من خلال التعامل مع الحركات الإسلامية باعتبارها حركات (إحيائية) بل التعامل معها كحركة مستقبلية، حركة تعانق الحاضر وعينها على المستقبل وليس على الماضي -إلا باعتبار الماضي عبرا ودروسا تستلهم- وحصر مظاهر التقديس على أساسيات الإسلام التي لا خلاف عليها، على أن تبقى العلاقة بين الإنسان وربه، وعدم قبول تنصيب أي كان نفسه نائبا عن الله في التحريم والتحليل، وفي منح صكوك الغفران أو الوعيد بنار جهنم، وما عدا ذلك من أمور يتم التعامل معها كمؤسسات وأفكار اجتماعية تستمد مصداقيتها وأحقيتها في الإظهار على غيرها، ليس بزعم انتسابها إلى الإسلام، ولكن بقدرتها على إثبات الذات في معركة الحياة وفي مواجهة المؤسسات والفلسفات والأيديولوجيات الأخرى.
أيضا فإن قيام أحزاب سياسية على أساس ديني أمر مثير للجدل، فلا الإسلام يقره، ولا مبادئ الدولة المدنية والديمقراطية تقره ، وعلى المجتمع والدولة رفض قيام أحزاب تدعي احتكارها للمجال الديني،ومن يوجد من أحزاب إسلام سياسي هي أحزاب دينية وليست مرجعية دينية،فالمرجعية الدينية يجب أن تكون لجهة وطنية غير حزبية ومحل توافق وطني.
من غير المعقول مواجهة واقع فاسد وحضارة الغرب المادية المتفوقة، بالروحانيات وبالنصوص وبالتاريخ، بل يجب أن نواجهها بواقع قوي متماسك، وإلا كيف يعقل أن ندعي عظمة الإسلام وعظمة حضارة العرب والمسلمين، ونحن ضعفاء متفرقين متخلفين؟ ذلك أن مجرد امتلاكنا القرآن والسنة النبوية وحفظنا إياهما، وامتلاكنا تاريخا مجيدا مليئا بالإنجازات الحضارية، لن تغير هذه الأمور في الواقع شيئا، فليس تردي واقعنا وتخلفنا من إرادة الله فقط ، بل هو بإرادة البشر وتقاعسهم، والخروج من هذه الحالة لن يكون بانتظار إرادة الله بأن يقول للشيء (كن فيكون)، بل يكون بإرادة البشر وعملهم. والتغيير الاجتماعي ومسيرة التاريخ يسيران حسب إرادة الأقوياء الفاعلين ، وكل عظمة الحضارة العربية الإسلامية التليدة الماضية، لا تستطيع اليوم أن تطعم طفلا جائعا رغيفا من الخبز.
إن كل إتباع الديانات الأخرى، سماوية أو غير سماوية، والتي قد تكون أقل شأنا من الإسلام، لم ينتظروا إذنا من ربهم أو وحيا منه ليطوروا أوضاعهم ويحسنوا شروط حياتهم، ولم يرجعوا نكسة أصابتهم أو أزمة تعرضوا لها إلى إرادة فوق بشرية، بل بحثوا عن الخلل في ذاتهم، ونظمهم وعلاقاتهم، وبالتالي تحركوا بمحض إرادتهم وعن قناعة عقلية، وبدافع المصلحة، محيدين الرب من صراعاتهم السياسية ، وانطلقوا وهم مؤمنون بأن عملهم على ما فيه خير الدنيا وتحسين ظروف وشروط حياة الإنسان، هو عمل يرضي الرب لان الرب لا يرضي لعباده أن يكونوا اتكاليين سلبيين ضعفاء، وهم بذلك لم يتخلوا عن دينهم، فلا المسيحيون تخلوا عن مسيحيتهم، ولا البوذيون كفروا ببوذا، ولا اليهود تخلوا عن دينهم، فعندما أصبح هؤلاء أقوياء قويت معهم دياناتهم.
وعليه، لا يمكن إنكار أن اللجوء إلى الإسلام كخط دفاع يوقف حالة التراجع العربي، وعنصر تعبئة وتحريض، وكتعبير عن رفض الانضواء تحت هيمنة الآخر واستلابه وكهوية تمايز، يصبح عملا مشروعا ومبررا.إلا أنه حتى يكون له الدور الاجتماعي المتضمَن في جوهر الإسلام، باعتباره ثورة ومشروعا حضاريا، يفترض أن تكون طريقة توظيف الدين مؤسسة على العقل والعقلانية و في اتجاه التوحيد لا التفرقة، في اتجاه البناء المستقبلي لا النظر إلى الماضي، في اتجاه إظهار عناصر التمايز عن الآخر لا على أساس النص الديني أو عظمة الماضي، بل تمايزا يقوم على الأفضلية والإظهار المبنيان على قدرة الفعل في التعامل مع الحاضر . ولا يمكن للدين أن يقوم بهذا الدور في ظل جماعات إسلامية متحالفة مع الغرب وكل هدفها الوصول إلى السلطة والحكم .
إنه مما يتناقض مع جوهر الإسلام، ومع قدرة الخالق ألا متناهية، أن نحبسه في نصوص بعينها، أو نحوزه ضمن أوضاع وظروف دون غيرها، أو أن يصبح أداة لشخص أو جماعة، لا يكون الرب حاضرا إلا بها ومعها ولا يعرف أسراره إلا هم.وحيث إنه لا يعقل أن يكون الله رب العالمين ضد أن يكون عباده أقوياء ومتحضرين، فإن الرب، رب المسلمين والعالمين ،لابد أن يكون محبذا بل وداعيا إلى كل ما من شأنه رفع راية المؤمنين، بل ومحبذا كسر حاجز الخوف من المُحرَم المبَالَغ فيه، وغير المستمد من نصوص واضحة وصريحة في تناول القضايا الدنيوية، حيث إن الخوف من المحرم -المتخيل والمصطنع بل والمؤدلج وليس المحرم الديني الصريح النص – وإضفاء صفة التقديس على أوضاع وأشخاص باسم الإسلام كالقول (حكومة ربانية) أو حزب الله أو جند الله ، شيء يتناقض مع جوهر الإسلام ويسيء له أكثر مما ينفعه: أمر يُرهب الناس ويبعدهم عن الإسلام بدلا من أن يقربهم إليه.
مما لا مراء فيه، أنه لا يمكن لأحد الآن أن يدعي أنه يملك الحقيقة الإلهية، أو يزعم أنه موحى له بها، بالتالي فإن أي شخص -أو حركة- يتحدث عن الإسلام، وباسمه، إنما يتحدث عن تأويل خاص أو وجهة نظر خاصة، فهو غير مفوض له ألاهيا، وليس فوق البشر. إن مقياس الحكم على أي تفسير أو ادعاء حول الدين يجد محكه العملي ليس في امتلاكه الحقيقة الإلهية أو الدفاع عنها -فهي خارجة عن نطاق البحث لأنه لا يوجد من يجادل فيها- ولكن في الواقع الإنساني، في قدرته على توظيف قيم الإسلام ومبادئه الأخلاقية لخدمة الإنسان والاجتماع الإنساني، هذا الأخير، الذي لا يؤسَس على المقدس فقط، بل على نظم يضعها البشر ويقيمونها، وتكييف لأوضاع مستحدثة لا عهد للأقدمين بها. فالإسلام هو سعى متواصل نحو الكمال، وأي شخص -أو جماعة- يدعي أنه وصل إلى الكمال الإسلامي، وأنه يمثل الحقيقة الإسلامية والنموذج الكامل للإسلام، إنما هو ضد الله بما هو مطلق ولا نهائي وضد الإسلام الذي لكل الأزمنة ولكل البشر.
أكثر الناس حرصا على الإسلام أكثرهم حرصا على كرامة الإنسان وإنسانيته ،وهذه لا تتأتى بالدعوات الصالحات بل بالعمل وتوظيف العقل لتوفير شروط الحياة الكريمة من صحة وتعليم وعمل الخ . الإسلام ليس مجرد رب يُعبَد ونصوص تُحفَظ وتُقدس، ولكنه الإنسان أيضا، الذي وجِدَ الدين من أجله، والعقل الذي تكررت الإشارة إليه في القرآن . لأن الإسلام جاء لينقل البشرية من وضع التردي والعبودية إلى الحياة الكريمة فإن أكثر الناس -أشخاص أو حركات وأحزاب وأنظمة- إسلاما هم أكثرهم احتراما للإنسان وتحقيقا لمصالحه وصونا لحريته والتزاما بالعدالة والحق والإنصاف. ولاشك في أن أنظمة فاسدة ونخب سياسية مأجورة تستدعي النضال ضدها ومقاومتها بكل السبل المتاحة، ولكن حيث أن هذا الظلم والفساد هو من صنع البشر وبإرادتهم، فإن مقاومته مهمة وطنية ومصلحة للشعب، ولا تحتاج هذه المقاومة إلى إضفاء صبغة دينية عليها لاكتساب الشرعية. فلا يعقل استنكار احتكار الأنظمة للدين وتوظيفها له لخدمة أغراضها، وفي الوقت نفسه تطرح قوى أخرى نفسها ناطقة باسم الدين! فأي نظام وأي حزب أو جماعة تلجأ إلى الدين لاكتساب الشرعية والمصداقية، فإنما تعبر عن اعتراف بالعجز عن اكتساب شرعية شعبية ومصداقية مستمدة من قدرتها على التعامل مع قضايا المجتمع ومشاكله، مصداقية نابعة من تلمس هموم الناس وإعطاء إجابات وحلول لهذه القضايا والمشاكل، فالمسلمون تواقون بلا شك، إلى اكتساب موقع في الجنة، ولكنهم أيضا في حاجة إلى حياة كريمة في دنياهم وبحاجة إلى عمل وبيت ومدرسة ومستشفى.
انطلاقا مما سبق فإن كثيرا ممن يرفعون شعار (الإسلام هو الحل) أو (الجهاد في سبيل الله) أو (تطبيق الشريعة الإسلامية) إنما يخدعون الناس، فهذه شعارات ينطبق عليها قول (كلام حق يراد به باطل) لأنها غامضة وفضفاضة ويمكن أن تفتح المجال لكل من هب ودب لتوظيف الدين لأغراض لا علاقة لها بالدين الحقيقي ،بل قد تفتح المجال لتجار السياسة وتجار الدين ولجهلة لا يفقهون من الدين إلا شكلياته من لحية وجلباب وحفظ بعض الآيات وتفتح المجال لهؤلاء للتغرير بشعوب فقيرة وشبه جاهلة تسودها ثقافة دينية ،ليحقق هؤلاء المتأسلمون مصالح خاصة باسم الدين وبما يسيء للدين نفسه.

المحور الثاني
استشكالات الدين والسياسة في فلسطين –معادلة مختلفة-

أولا : المسألة الدينية في الصراع العربي الإسرائيلي

نقاشنا أعلاه كان يدور حول توظيف الدين في الحياة السياسية الداخلية وفي الصراع على السلطة وهو أمر يختلف عن دور ووظيفة الدين في مجتمعات خاضعة للاستعمار وخصوصا إن كانت الدولة المستعمِرة تبرر قيامها واستمراريتها على أساس الدين . في الصراع العربي الإسرائيلي لا تقوم التحالفات ويتم نسج شبكة الصداقات والعداوات على أسس واضحة بل يتداخل الماضي مع الحاضر والدين مع السياسة مع القانون ،الوطني مع القومي مع الديني . ويتموقع الدين ، سواء في جانبه الإيماني أو من جانب توظيفه السياسي ، كأهم عناصر الصراع .
1-يهودية دولة إسرائيل تستدعي استحضار الدين عند الطرف الآخر
تعتبر إسرائيل الدولة الوحيدة في العالم التي تتشكل ساكنتها اليهود من أفراد جُلبوا من كل بقاع الدنيا ولا يربطهم بالأرض التي يقيمون عليها سوى مزاعم دينية أسطورية،إنها الدولة الوحيدة التي تقوم على أساطير دينية كمقولات ( كشعب الله المختار ) و (أرض الميعاد )،والدولة الوحيدة التي تتعامل مع الآخرين كأغيار، والأغيار حسب التوراة يجوز قتلهم وتعذيبهم وانتهاك حرماتهم وهذا ما يقول به كتابهم المقدس وعلى لسان نبيهم يشع بن نون: ” ابقِروا بطون الحوامل، اذبحوا الأطفال، اقتلوا الرجال، احرقوا الأرض ثم استولوا عليها”. إسرائيل الدولة الوحيدة التي لا تعترف بالشرعية الدولية ولا بالقانون العام ولا تحترم معاهدات أو اتفاقات إلا بما يتفق مع كتبهم المقدسة وأساطيرهم المزعومة التي على أساسها تم ارتكاب مجازر دير ياسين وقانا ، وتدمير البيوت والاعتقالات والإرهاب ضد الأطفال والمدنيين، وتدنس المقدسات الإسلامية والمسيحية ومصادرة الأرض .هذه إسرائيل التي تطالب الفلسطينيين بان يعترفوا بها كدولة يهودية فيما ترفض الاعتراف بحق الفلسطينيين بدولة مستقلة حتى في الحدود التي تعترف بها الشرعية الدولية.
لا يقتصر البعد الديني على قيام إسرائيل وسياستها تجاه الفلسطينيين والعرب بل أصبح محددا في علاقات وتحالفات إسرائيل الخارجية، فالعلاقات المتميزة بين إسرائيل والغرب وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية لا تقوم على نفس الأسس التي تحكم علاقات الدول بعضها ببعض بل للدين دور في تحديد هذه السياسة وخصوصا عند قطاع من المتدينين المسيحيين المؤمنين بالكتاب المقدس الذي يشمل العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل)،كما أن صعود (المحافظون الجدد) في الولايات المتحدة عزز من البعد الديني في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية وفي نظرة الولايات المتحدة للصراع في الشرق الأوسط ،وليس حديث الرئيس بوش الابن عن الحرب الصليبية عشية الحرب على العراق مجرد زلة لسان – مع انه تراجع عنها لاحقا-.

2- البعد الديني في المشروع الوطني الفلسطيني

بالرغم من انكشاف المشروع الصهيوني بأبعاده الدينية منذ بداية القرن العشرين إلا أن الحركة الوطنية الفلسطينية الوليدة نأت بنفسها عن الطائفية والتعصب الديني . فبداية ظهور الحركة الوطنية الفلسطينية في نهاية العقد الثاني من القرن الماضي -1918- كان من خلال جمعيات حملت اسم (الجمعيات الإسلامية – المسيحية) وهي التي مهدت لظهور أحزاب وطنية، وكان ظهور هذه الجمعيات كمؤطر للحركة السياسية الفلسطينية ومُعبّر عن مطالب الشعب الفلسطيني له دلالة واضحة وهي أن الشعب الفلسطيني بمسلميه ومسيحييه متحد في مواجهة الغزو الصهيوني والاستعمار البريطاني، وأنه شعب يؤمن بالتعايش بين أصحاب الديانات في الوطن الواحد.
قيام الكيان الصهيوني عام 1948 وتشريد غالبية الشعب الفلسطيني وممارسته لسياسة تهويد الأرض وتدنيس المقدسات، ثم احتلاله لبقية أجزاء فلسطين وأراض عربية أخرى عام 1967، وإعلانه ضم القدس واعتبارها عاصمة موحدة له، كل هذا استفز الشعور الديني عند الفلسطينيين والعرب والمسلمين، إلا أن الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة لم ترد على العنصرية الصهيونية بعنصرية مماثلة فقد ميزت بين اليهود كأصحاب ديانة سماوية والصهيونية كفئة من اليهود يوظفوا الدين لأغراض سياسية استعمارية، هذا الشعار الذي تحول إلى سياسة رسمية عند م.ت.ف وتم التنصيص عليه في مقررات المجلس الوطني الفلسطيني لاحقا.
اعتبارات متعددة وقفت وراء تغييب البعد الديني كمحدد رئيس في المواجهة مع الكيان الصهيوني طوال عقد السبعينيات . طبيعة التركيبة السكانية في فلسطين عنصرا يدفع في هذا الاتجاه، حيث يوجد مواطنون فلسطينيون مسيحيون ويهود ، والعديد من قادة حركة المقاومة الفلسطينية وشهدائها كانوا مسيحيين، بالإضافة إلى ذلك أن الفكر السياسي العربي الذي ساد خلال تلك الفترة ،والفكر السياسي الفلسطيني جزءا منه، كان فكرا قوميا اشتراكيا ويساريا، لا يؤسِس برنامجه على منطلقات دينية بل طغى عليه الخطاب العلماني، وربما كان لتحالف حركة التحرر العربية آنذاك بما فيها الحركة الوطنية الفلسطينية مع المعسكر الشيوعي دور في تهميش دور الدين كعامل رئيس من عوامل الصراع.
كان شعار/ هدف الدولة الفلسطينية الديمقراطية التي يتعايش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود المقيمون على أرض فلسطين والذي رفعته منظمة التحرير وخصوصا حركة فتح في بداية السبعينيات أول ملامسة حقيقية لخصوصية المسألة الدينية في فلسطين ومحاولة لإيجاد حل واقعي ديمقراطي لها يرد على المزاعم الصهيونية . ووجه هذا الشعار بمعارضة من أحزاب وقوى سياسية علمانية يسارية رأت أن هذا الشعار أو الهدف يتناقض مع نصوص الميثاق الوطني الفلسطيني، لأنه يعترف لليهود الذين جلبتهم الحركة الصهيونية إلى فلسطين بعد 1948 بحقوق في فلسطين مساوية لحقوق العرب أصحاب الأرض، وفي الجهة الأخرى فإن ترحيب بعض قوى اليسار في الكيان الصهيوني بهذا الشعار قابلة رفض شديد من الدولة العبرية وكل القوى السياسية وخصوصا اليمينية اليهودية لكونه في نظرها يتضمن إلغاء وجود دولة إسرائيل ويتناقض مع فكر وهدف الحركة الصهيونية بإقامة دولة يهودية خالصة.
شهدت المنطقة العربية منذ نهاية السبعينيات أحداث وتحولات منها تراجع المد القومي اليساري العلماني وقيام الثورتين الأفغانية 1978 والإيرانية 1979 ثم انهيار المعسكر الاشتراكي حليف القوى اليسارية والعلمانية الفلسطينية والعربية 1991،الأمر الذي فسح المجال للتيار الأصولي الإسلامي للصعود ومزاحمة التيار الوطني للمشهد السياسي العربي بما فيه المشهد الفلسطيني. ظهر تأثير المد الديني على الخطاب السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية في الصياغة الإبداعية لوثيقة إعلان الاستقلال الصادرة عن المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988 وجاء فيها : “مطعما بسلالات الحضارة وتعدد الثقافات، ومستلهما نصوص تراثه الروحي والزمني، واصل الشعب العربي الفلسطيني، عبر التاريخ، تطوير ذاته في التوحد الكلي على كل مئذنة صلاة الحمد للخالق، ودق مع كل جرس كنيسة ومعبد ترنيمة الرحمة والسلام . إن دولة فلسطين هي للفلسطينيين أينما كانوا، فيها يطورون هويتهم الوطنية والثقافية، ويتمتعون بالمساواة الكاملة في الحقوق، وتصان فيها معتقداتهم الدينية، والسياسية، وكرامتهم الإنسانية، في ظل نظام ديمقراطي برلماني يقوم على أساس حرية الرأي، وحرية تكوين الأحزاب، ورعاية الأغلبية حقوق الأقلية، واحترام الأقليات قرارات الأغلبية، وعلى العدل الاجتماعي، والمساواة وعدم التمييز في الحقوق على أساس العرق، أو الدين، أو اللون، أو بين الرجل والمرأة، وفي ظل دستور يؤمن سيادة القانون والقضاء المستقبل، وعلى أساس الوفاء الكامل لتراث فلسطين الروحي، والحضاري في التسامح والتعايش بين الأديان عبر القرون).
إذا كانت الانتفاضة الفلسطينية هي اللحظة التاريخية والساحة العملياتية التي أظهرت قوة التيار الديني في الساحة الفلسطينية، فإن اتفاقية أوسلو التي وقعتها م.ت.ف. مع إسرائيل وما استدعته من استحقاقات سياسية وأمنية كانت المناسبة ليعلن هذا التيار الديني برنامجه السياسي ذي الأبعاد الدينية الواضحة التناقض مع الطرح السياسي الرسمي للسلطة الوطنية الفلسطينية.كان أهم ما نتج عن دخول البعد الديني في الصراع مع الكيان الصهيوني بشكل مكثف مدعوم بتأييد شعبي، هو تراجع الوطنية الفلسطينية والتشكيك بالمشروع الوطني، وإعادة النظر في طبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني، هل هو صراع سياسي حول الأراضي المحتلة عام 1967 ، وبالتالي يمكن أن يُحسم الصراع باتفاقيات سياسية بين الطرفين؟ أم صراع ديني بين اليهود والمسلمين لا يُحسم إلا باجتثاث الوجود اليهودي الصهيوني في أرض فلسطين ؟.
إذا كانت منظمة التحرير الفلسطينية اتخذت موقفا واضحا باستعدادها لطي صفحة الصراع مع الكيان الصهيوني بما يتضمنه من أبعاد دينية إذا قبل هذا الأخير بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، وهو نفس موقف العديد من الدول العربية ، فإن موقف حماس والجهاد الإسلامي كان وما زال يتراوح ما بين إعلانه للجهاد حتى تحرير كامل التراب الفلسطيني واعتبار الصراع صراعا دينينا لا حلول وسطا فيه ، وموقف وسطي يقبل بدولة فلسطينية على حدود حزيران 67 بما فيها القدس الشرقية،إلا أن هذا الموقف يندرج في إطار المناورة والبراغماتية أحيانا وحينا آخر كبادرة حسن النية تجاه السلطة الفلسطينية وإعطائها فرصة لمحاولة تحقيق برنامجها السياسي مع احتفاظ حماس والجهاد الإسلامي ببرنامجها البديل إذا ما فشلت السلطة في تحقيق هذا الهدف.
وأخيرا يمكن القول أن البعد الديني سيبقى عنصر صراع مع الكيان الصهيوني حتى وان حسمت أوجه الصراع الأخرى من سياسية واقتصادية وقانونية، فما دام الكيان الصهيوني يؤسس وجوده على عقيدة صهيونية يهودية متعصبة، وما دام يستحضر بقوة كل الرموز والأساطير الدينية اليهودية التي لا تعترف بأصحاب الديانات الأخرى مسلمين ومسيحيين كأصحاب حق في فلسطين، وفي ظل التحالف المتين بين الجماعات الدينية اليهودية المتطرفة والنخبة السياسية الحاكمة التي تريد تحويل إسرائيل لدولة يهودية، كل هذا سيعطي مبررا لجماعات دينية فلسطينية وعربية لتوظيف الدين في صراعها مع إسرائيل.

ثانيا : الإسلام السياسي و الوطنية الفلسطينية

1-الجماعات الإسلامية في فلسطين اليوم
وجدت الجماعات الدينية في فلسطين منذ الربع الأول من القرن الماضي من خلال فروع الإخوان ،فكان لهم حضور في كل ربوع فلسطين قبل النكبة،وإلى اليوم فللإخوان وجود تنظيمي بأسماء مختلفة داخل الخط الأخضر وفي الضفة والقطاع ،كما كان للفلسطينيين دور في تأسيس حزب التحرير . إن كانت حركة حماس أكبر جماعات الإسلام السياسي في فلسطين إلا أن جماعات أخرى توجد في فلسطين وخصوصا في قطاع غزة وأهمها : –
أ‌- حركة الجهاد الإسلامي . ظهرت متزامنة تقريبا مع حركة حماس ومؤسسها الأول فتحي شقاقي اغتاله الموساد الإسرائيلي في أكتوبر 1995 في مالطا،ويتزعمه الآن عبد الله رمضان شلح المقيم في بيروت . وكما هو الحال بالنسبة لبقية الفصائل الفلسطينية فلا يوجد حضور مسلح للجهاد الإسلامي في الضفة ويقتصر حضورها المسلح على قطاع غزة وما زالت هذه الحركة ترفض المشاركة في السلطة،وكان لها حضور كبير ودور فاعل في كل المواجهات المسلحة مع إسرائيل وخصوصا على مستوى إطلاق الصواريخ خلال العدوان الأخير على القطاع ،والحركة قريبة من إيران وتعتمد في تمويلها وتسليحها عليها.
ب‌- ألوية الناصر صلاح الدين وهي الجناح العسكري للجان المقاومة الشعبية وتأسست 2001 بداية الانتفاضة الفلسطينية ،وشاركت في العملية التي أدت لخطف الجندي شاليط،كما شاركت في معارك مواجهة العدوان على القطاع ، وكانت مسئولة عن إطلاق الصواريخ على إسرائيل .وقد قامت إسرائيل باغتيال عدد من قادتها.
ت‌- حزب التحرير تأسس عام 1953 وهو تنظيم أممي له فروع في كثير من دول العالم كما أنه لا يتبنى العمل العسكري ولا يسعى للمشاركة في الانتخابات أو السلطة ،ويعارض كلا من السلطة الفلسطينية وسلطة حماس ويتهم السلطتين والحكومتين بالخروج عن الشرع وعلى الثوابت الوطنية ،كما يتهم السلطتين باضطهاد عناصره،وتعتبر الخلافة أهم مبادئه وأهدافه.
ث‌- جيش الإسلام الذي يتزعمه ممتاز دغنش وتأسس قبل عقد من الزمن فقط ، وهو قريب من تنظيم القاعدة، وكلن في بدايته قريب من حركة حماس حتى أن العملية العسكرية التي أدت إلى خطف الجندي شاليط عام 2006 كانت مشتركة بين جيش الإسلام وألوية الناصر صلاح الدين وحركة حماس.إلا أن العلاقة توترت بين جيش الإسلام وحركة حماس وهاجمت الحركة مواقع ومنازل قادة جيش الإسلام وقتلت العديد منهم .
ج‌- جماعات سلفية دعوية موجودة في الضفة وغزة تنأى بنفسها عن العمل الجهادي العسكري بل وتكفر من يقومون به ،وهذه الجماعات قديمة العهد في فلسطين وبعضها موجود قبل النكبة ،وتعتبر المملكة العربية السعودية أهم ممول وحليف لهذه الجماعات.
ح‌- جماعات سلفية جهادية موجودة في قطاع غزة فقط وقد تعاظم شانها خلال السنوات الست الماضية، بعضها مرتبط بتنظيم القاعدة وأخرى مرتبطة بجماعات متواجدة في سيناء. مارست هذه الجماعات في فترات بعض العمليات محدودة ضد إسرائيل ، ولكنها أيضا مسئولة عن أعمال داخل قطاع غزة كتفجير صالونات حلاقة ومقاهي واغتيال متضامنين أجانب ومنهم المتضامن الإيطالي فيكتور أريغوني في أبريل 2010. ومن هذه الجماعات جماعة (التوحيد والجهاد) بزعامة الشيخ عبد اللطيف موسى -أبو النور المقدسي- الذي أعلن عن إقامة إمارة إسلامية في مدينة رفح -منتصف أغسطس/آب 2009- مما دفع حماس إلى محاصرة موسى ومرافقيه في مسجد إبن تيمية ثم تدميره إثر اشتباكات واسعة استمرت ساعات عدة وأدت إلى مقتل أربعة وعشرين شخصًا بينهم موسى نفسه، إضافة إلى إصابة عشرات آخرين.

2- حركة حماس والمشروع الوطني
إن كان من المفهوم توظيف الدين في الصراع مع إسرائيل لحشد اكبر عدد من الحلفاء لمواجهة التحالف الإسرائيلي الصهيوني الغربي،إلا أنه يُؤخذ على هذا التوظيف وخصوصا من طرف حركة حماس أنه خرج عن متطلبات المشروع الوطني بل دخل في مواجهة مع المشروع الوطني الذي تمثله منظمة التحرير مما أدى لحالة انقسام حاد ما زال الفلسطينيون يعيشون تداعياته .
من المعروف أن جماعة الإخوان المسلمين وكل الجماعات المنبثقة عنها، حركة عقائدية تسعى لنشر وتعزيز الدين الإسلامي كأيديولوجيا في المجتمعات الإسلامية تمهيدا لتحقيق هدفها الأعلى بالوصول للسلطة وإقامة دولة الخلافة الإسلامية. ولتحقيق هذا الهدف لم تكن الحركة معنية بالدخول بصراعات تعتبرها جانبية مع القوى الاستعمارية والامبريالية كما أنها لم تعلن الجهاد لتحرير فلسطين-باستثناء مشاركتها بحرب 1948-. هدف تغيير الأوضاع الداخلية وتعزيز فروع الحركة في الخارج أسبَق وأكثر أهمية من الجهاد المسلح ضد إسرائيل وضد الإمبريالية الأمريكية والدول الاستعمارية،وقد لاحظنا في الفترة الأخيرة دخول فروع الجماعة بالعملية الانتخابية في أكثر من بلد عربي وإقرارها بالاتفاقات والعلاقات التي تقيمها الحكومات مع العالم الخارجي وخطاب المهادنة مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية .
سواء كان الأمر تكتيكا أم نهجا استراتيجيا فإن الصراع من اجل الوصول للسلطة في كل بلد تتواجد فيه الحركة أصبح القضية الأساسية لدى جماعات الإسلام السياسي الإخوانية ،أما تحرير فلسطين فهي مهمة مؤجلة.
لأن حركة حماس امتداد لجماعة الإخوان المسلمين فإن مشروعها السياسي في غزة مشروع الإخوان المسلمين الذي يُغلب متطلبات هذا المشروع على أي مشاريع أخرى بما فيها المشروع الوطني والدولة الوطنية. فصل غزة عن القطاع وتأسيس سلطة إسلامية بالقطاع وهو ما يعتبره القائلون بالمشروع الوطني تهديدا للمشروع الوطني هو بالنسبة لحركة حماس وللإخوان المسلمين نصرا و قاعدة ومنطلقا لتأسيس المشروع الإسلامي الذي تحلم به جماعة الإخوان المسلمين منذ أكثر من ثمانين عاما وفشلت في إنجازه في أية دولة عربية أو إسلامية ووجدوا بقطاع غزة الفقير والمحاصر والمحتل (حيطة واطية ) وحقل تجارب لتنفيذ مخططهم.
الجهود التي بذلتها جماعة الإخوان المسلمين وكل جماعات الإسلام السياسي لرفع الحصار عن القطاع إن كانت ستؤدي لتكريس فصل غزة عن الضفة وإنهاء المشروع الوطني لمنظمة التحرير فإن هذا الرفع من وجهة نظر حركة حماس يعني تحرير القطاع من الاحتلال ومن سلطة علمانية فلسطينية كانت تسيطر عله،وإقامة إمارة أو دولة في القطاع تكون بمثابة الإقليم /القاعدة لمشروع جماعة الإخوان المسلمين.كل ذلك فرض سؤالا محوريا عن علاقة المشروع الإسلامي ألإخواني الذي يتخذ من قطاع قاعدة مرتكز وحقل تجربة له،علاقته بالمشروع الوطني الفلسطيني كأحزاب وقوى سياسية وكسياسات واستراتيجيات وكتحالفات وعلاقات إقليمية ودولية، كما أثار شكوكا حول مدى ملائمة الجغرافيا السياسية لقيام إمارة إخوانية بقطاع غزة ترفض الاعتراف بالشرعيات الوطنية الفلسطينية والعربية والدولية. إن كان ما يسمى بالربيع العربي وخصوصا بعد فوز محمد مرسي بالرئاسة في مصر أوجد وهما بإمكانية نجاح هذا المشروع ،فإن سقوط حكم الإخوان في مصر وما يجري من أحداث في دول (الربيع العربي) جعل تحقيق هذا المشروع شبه مستحيل.
الانتخابات التشريعية تكشف تعارض المشروع الوطني مع مشروع حركة حماس
لم يكن فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية في 25-1-2006 مجرد فوز لحزب على بقية الأحزاب في انتخابات تشريعية تعرف مثيلا لها غالبية دول العالم، بل كان انقلابا وزلزالا ،ولكنه ليس زلزالا من حيث اكتساح حركة حماس لغالبية مقاعد المجلس التشريعي بل من حيث التداعيات القانونية والإستراتيجية لهذا الفوز على مجمل الصراع في المنطقة وعلى المرجعية القانونية والشرعية للشعب الفلسطيني .
لو كان الفوز من نصيب حزب من أحزاب منظمة التحرير ما كان الأمر يثير إشكالات كثيرة ، ولو فازت حماس وأخذت موقعها كحزب معارض بالمجلس التشريعي واستمرت السلطة بيد حركة فتح أو تحالف من فصائل منظمة التحرير أيضا لكان الأمر قابل للتعامل معه ضمن نفس الثوابت والمرجعيات المؤسسة والمسيرة للنظام السياسي، ولكن مَن فاز هي حركة حماس التي هي خارج منظمة التحرير وخارج النظام السياسي ولها ميثاقها الخاص بها والذي يعتبر بديلا لميثاق منظمة التحرير،ومن المعلوم أن كل المحاولات التي جرت لإدماج حركة حماس في منظمة التحرير قد باءت بالفشل.
مفترض أن تكون الانتخابات مجرد انتخابات لمجلس تشريعي لسلطة حكم ذاتي منبثقة عن اتفاقية أوسلو، وهذا يعني أن صلاحيات المجلس التشريعي والحكومة التي ستنبثق عنه لن تتعدى إدارة أمور الفلسطينيين داخل المناطق التي تسيطر عليها السلطة،أما القضايا الإستراتيجية كالاعتراف بإسرائيل والمفاوضات والعلاقات الخارجية فليست من اختصاص السلطة الوطنية بل من اختصاص منظمة التحرير الفلسطينية التي هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ،وهي بصفتها هذه وقعت الاتفاقات وما زالت تستلم ملف المفاوضات . حسب المنطق و مقتضيات القانون الأساسي للسلطة لا يمكن لمجلس منتخب من جزء من الشعب لممارسة حكم ذاتي على جزء من الوطن أن يتحدث باسم كل الشعب الفلسطيني ويطرح نفسه ممثلا عنه مُغيبا الممثل الشرعي والوحيد -منظمة التحرير الفلسطينية -.
وهكذا فإن وصول حركة حماس للسلطة بعد الانتخابات أوجد نظاما سياسيا متعدد الرؤوس والمرجعيات ،فبالإضافة لحكومة حمساوية لا تقر بمرجعية السلطة الوطنية، يوجد الرئيس أبو مازن رئيس السلطة ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس حركة فتح الخاسرة في الانتخابات ،وتوجد منظمة التحرير كممثل شرعي لكل الشعب والجهة المعترف بها دوليا ،وهناك أيضا السلطة الوطنية الملتزمة باتفاقات أوسلو وما تلاها،، بالإضافة إلى الجهاز البيروقراطي (الإداري ) الذي هو في غالبيته من حركة فتح ،يضاف إلى ذلك إسرائيل والعالم الخارجي والعربي الذين وإن تفاوت قبولهم للعملية الانتخابية إلا أنهم جميعا يرون ضرورة التزام حركة حماس بالاتفاقات الموقعة وبقرارات الشرعية الدولية . نظرا لأن إسرائيل ترفض التعامل مع حكومة حماس فقد لجا الرئيس أبو مازن وفي إطار إنقاذ ما يمكن إنقاذه من السلطة والمشروع الوطني بسحب كثير من الصلاحيات من يد الحكومة لتصبح تحت إشرافه المباشر، مما زاد من التوتر ما بين الرئاسة والحكومة ،وآل الأمر لصدامات مسلحة أدت لتوقيع اتفاق مكة وتشكيل حكومة توافق وطني لم تستمر إلا لثلاثة أشهر وبعدها حدث الانقلاب الذي سيطرت من خلاله حركة حماس على قطاع غزة ،وأصبح النظام السياسي برأسين وبمشروعين سياسيين: مشروع (إسلام) إخواني في غزة و مشروع (وطني) تقوده حركة فتح في الضفة.
هناك قضية أخرى نتجت عن فوز حماس وتتعلق بمسألة الهوية ومفهوم الاستقلالية الوطنية. فقد ناضل الفلسطينيون طويلا لإبراز الهوية الوطنية المستقلة والتخلص من الوصاية الرسمية العربية ،ولكن حماس اليوم تقول بأنها امتداد لجماعة الإخوان المسلمين وهو ما يثير حفيظة الكثيرين ، فلو بقيت حماس خارج السلطة فمن حقها أن تتصرف وكأنها امتداد لجماعة الإخوان المسلمين ،ولكن أن تزعم بأنها تمثل الشعب الفلسطيني وتتصرف على هذا الأساس وفي نفس الوقت تقول بأنها امتداد لحزب غير فلسطيني لا المنشأ ولا القيادة ولا المقر فهذا أمر غير مقبول ،فكيف نُرهن أنفسنا ومصيرنا بحزب أو حركة أجنبية ؟ هذا لا يعني بطبيعة الحال التهرب من أننا جزء من الأمة الإسلامية و من الأمة العربية ،بل المرام القول بأننا نرفض أن نخضع لحكومة تقودها جماعة سياسية تقول بأنها جزء من جماعة سياسية أجنبية حتى وإن كانت جماعة دينية.
كان من الممكن أن يكون وصول حركة حماس للسلطة أمرا إيجابيا لو وافقت حركة حماس على أن تكون جزءا من المشروع الوطني الذي تجسده منظمة التحرير بعد إصلاحها واستنهاضها من كبوتها وتحريرها من بعض رموزها قياداتها التي تجاوزها الزمن ، لا أن يغيب المشروع الوطني والهوية الوطنية في ثنايا المشروع الديني لحماس. المنظمة بميثاقها وبوسطيتها وبأريحيتها السياسية والإيديولوجية يمكنها استيعاب كل قوى وفصائل الشعب بكل ألوانها السياسية،ولكن حركة حماس كحركة عقائدية لا تستطيع استيعاب الجميع وخصوصا أن الشعب الفلسطيني يعرف منذ زمن طويل تعددية سياسية وإيديولوجية.
بررت حركة حماس ما أقدمت عليه من انقلاب وترددها في دخول منظمة التحرير بان هذه الأخيرة منظمة علمانية تخلت عن المقاومة وتعترف بإسرائيل،وان كل ما أقدمت عليه السلطة والمنظمة ضربا من الخيانة الوطنية. فأين حركة حماس اليوم من منطلقاتها وشعاراتها الأولى؟. مع كامل التقدير والاحترام للشهداء والأسرى والمصابين من حركة حماس فإن الممارسة الواقعية لحركة حماس وحكومتها في قطاع غزة اليوم وخصوصا بعد توقيع هدنة رسمية مع إسرائيل عنوانها ( وقف الأعمال العدائية بين الطرفين ) يثيران شكوكا بأن السلطة والحكم هو كل ما كانت تسعى إليه بعض القيادات النافذة في الحركة منذ تأسيسها. كما أن استمرار حركة حماس بالقول بأنها جزء من جماعة الإخوان المسلمين يعني تخليها عن المشروع الوطني والهوية الوطنية والثقافة الوطنية.
قد يقول قائل، وهذا ما تقول به حركة حماس أبضا، بأن التآمر على الحركة هو السبب في تقليص أهدافها وفي القبول بالتهدئة،وأن الحركة لم تتخل عن الثوابت بل هي مرحلية وتكتيك ومناورة لحين تغير الظروف والأوضاع الخ.!. ولكن متى كان الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية وكل فصائل العمل الوطني غير معرضين للتآمر؟ ألم تدمر إسرائيل مؤسسات السلطة واجتاحت الضفة وحاصرت الرئيس أبو عمار ثم اغتالته قبل أن تكون حماس بالسلطة؟ ألم تحاصر إسرائيل مناطق السلطة عدة مرات قبل أن تكون حماس جزءا من السلطة؟الم تغتال إسرائيل مقاومين وقيادات من كل الفصائل الفلسطينية دون أن تحترم أو تحسب حسابا لوجود السلطة الوطنية؟ ألم تكن حركة حماس متآمرة على حركة فتح والسلطة منذ تأسيس السلطة عندما رفضت المشاركة بانتخابات 96 وبالسلطة ومارست سياسة التخوين والتشكيك بكل ما تمارسه السلطة؟. التآمر الإسرائيلي ليس فقط على حماس وحكومتها بل هو سياسة متأصلة عند الإسرائيليين ضد الشعب الفلسطيني وأي حكومة فلسطينية،كما أن التآمر الداخلي جزء من الحياة السياسية لكل دولة ، فلا سياسة تخلو من تآمر وخصوصا عندما يغيب التوافق الوطني وحكومة وحدة وطنية،وعليه لا يجوز تبرير التراجع بالأهداف وقبول ما قبلت به حركة حماس تحت ذريعة العدوان الصهيوني والتآمر السياسي.

3-ضرورة توطين الإسلام السياسي في فلسطين

لا يوجد شعب بدون وطن يمارس فيه أبناؤه حياتهم الطبيعية ويحققوا ذواتهم ويفتخرون بالانتساب إليه، ولا وطن بدون فكر وثقافة وهوية وطنية تعزز انتماء أبناء الشعب لوطنهم، ولا فكر وطني بدون مشروع وطني يحدد أهداف وطموحات الشعب وآليات تحقيق هذه الأهداف ، ولا مشروع وطني بدون ثوابت ومرجعيات تعبر عن القواسم المشتركة والحقوق الوطنية محل التوافق الوطني بغض النظر عن الدين أو اللون أو الطبقة أو الأيديولوجيا، وتحشد من خلفها الشعب في مواجهة النزعات والارتباطات ما قبل الوطنية وفي مواجهة التحديات الخارجية .
إذا كان الوطن متجسدا بدولة مستقلة ينتفي مبرر الحديث عن مشروع وطني لان المشروع هو الفكرة قبل التحقق ، وعندما يُنجز المشروع بقيام الدولة يتم التعبير عن الفكرة والثوابت الوطنية من خلال الثقافة ورموز الهوية والقانون الأساسي أو الدستور،أو من خلال أحزاب أو قوى وطنية قد تدخل في حالة صراع مع إيديولوجيات ذات امتدادات عبر وطنية كالأممية الاشتراكية أو الشيوعية والأيديولوجية القومية والأيديولوجيات الدينية وفي مواجهة النزعات التي تهدد وجود الدولة الوطنية ووحدة الأمة. ولكن عندما تغيب الدولة ويصبح الوطن كهوية وثقافة مهددا وجوديا بسبب الاحتلال، يصبح المشروع الوطني ضرورة وجودية وينتفي مبرر وجود إيديولوجيات عابرة للوطنيات أو ما قبل الوطنية إلا كتوظيف وسائلي وغائي لخدمة المشروع الوطني، بمعنى انه في حالة وجود أحزاب وحركات في إطار حركة التحرر فعلى هذه القوى توطين إيديولوجياتها واستراتيجياتها ضمن ثوابت وطنية لا يجوز الاختلاف عليها، فتوظف امتداداتها القومية أو الأممية أو الدينية لصالح المشروع الوطني وليس العكس، وإلا سيصبح الاشتغال على هذه الإيديولوجيات على حساب العمل الوطني ومتطلبات تحقيق الوطن كهوية ودولة.
إن المتتبع لتاريخ الشعوب الخاضعة للاستعمار والتي أطرت حركتها السياسية في إطار مشروع وطني سيلاحظ أن هذه المشاريع كانت دوما مشاريع وحركات تحرر وطني واحد بثوابت ومرجعيات محل توافق الأمة ولا يجوز وجود أكثر من مشروع وطني أو قيادة وطنية أو إستراتيجية عمل وطني لنفس الشعب وفي نفس مرحلة حركة التحرر وإلا ستتضارب وتتصارع هذه المشاريع مع بعضها البعض ويتحول الصراع من صراع الشعب، كل الشعب، ضد العدو المُهدِد للوجود الوطني، لصراعات داخلية مما يستنزف جهود الشعب. المتابع لتاريخ الشعوب سيكتشف بان المستعمِر كان يعمل دوما على شق وحدة الشعب بخلق قوى وأحزاب تحت مسميات متعددة لتدخل في مواجهات مع الوطنيين الحقيقيين أصحاب المشروع الوطني التحرري.
في الوضع الطبيعي يفترض ألا يكون هناك تناقض ما بين الانتماء الوطني والانتماء القومي والانتماء الإسلامي أو الديني بشكل عام، فأن أكون مصريا أو سوريا أو فلسطينيا لا يتعارض مع حقيقة كوني قوميا عربيا ومسلما، تبرز المشكلة عندما يتم أدلجة الهويات والانتماءات،أي عندما تظهر أحزاب ونخب تصادِر الفكرة والانتماء وتُنصِب نفسها صاحبة الحق بالتعبير عن هذه الفكرة وهذا الانتماء أو الهوية ،أحزاب تزعم بأنها وطنية وبالتالي تصيغ مفهوم الهوية والانتماء الوطني حسب مشيئتها وبما يخدم مصالحها ومصالح النخب أو الطبقة التي تمثلها،وأحزاب تصادر الدين وتحتكره وتنصب نفسها ناطقة باسمه فتفسر وتؤل وتلون في الدين وتحلل وتحرم وتمنح صكوك غفران للبعض وتكفر آخرين،وأحزاب تصادر الفكرة القومية وتنصب نفسها ناطقة باسم الأمة العربية وتقصي بتهمة الإقليمية والشعوبية الخ، كل من يناصبها العداء ،وحيث أن هذه القوى والحركات تسعى للسلطة فأنها توظف هذه الانتماءات كايدولوجيا تعبوية وتحريضية في مواجهة خصومها السياسيين، فتبتعد الوطنية والقومية والدين عن معانيها ودلالاتها الأصلية والأصيلة وبدلا من أن تكون انتماءات موحِدة للأمة تتحول لعوامل فرقة وفتنة، وقد لاحظنا خطورة تسييس وتحزب الانتماءات عندما مارست السلطة أحزب باسم القومية العربية ونلاحظه اليوم في ممارسات جماعات إسلامية في أكثر من بلد إسلامي.
بالرغم من المنزلق الذي تؤدي إليه أدلجة الانتماءات والهويات إلا أن الموضوع يبقى تحت السيطرة وقابل للفهم في البلدان العربية والإسلامية فشعوب هذه البلدان حققت مشروعها الوطني وبغض النظر عن طبيعة النظام السياسي فإن المواطن العربي يمارس حياته الطبيعية في وطن يعيش فيه ويُنسب إليه ، وبالتالي تصبح الدعوة لمشروع إسلامي أو قومي شيئا زائدا أو إضافيا أو عقائديا يستمد شرعيته أو مبرراته من البعد العقائدي للقائلين به أكثر من تأسيسه على حقائق تاريخية وسياسية واقعية ويبقى تطلعا مشروعا من حيث المبدأ، فإذا تحقق فلا باس بذلك وإن لم يتحقق يبقي المصري مصريا والسوري سوريا والمغربي مغربيا في وطنه فالوطن الصغير يمنحه تعويضا نفسيا وماديا عن فشل تحقق حلمه الكبير،أيضا يمكن للديمقراطية أن تعالج بعض أوجه الخلاف وتجد بعض القواسم المشتركة بين القوى الوطنية والإسلامية المعتدلة والقومية، ولكن بالنسبة للفلسطيني الذي لا يملك وطنا خاصا به وهويته الوطنية بل وجوده الوطني مهدد بعدو يؤسس وجوده على نفي الوجود الوطني الفلسطيني فإن مثل هكذا صراعات أيديولوجية تعتبر خارج سياق مرحلة التحرر الوطني.
المشكلة في رأينا ليست في الإسلام كدين كما يُروِج البعض حيث يسوّقون الخلاف في الساحة الفلسطينية وكأنه صراع بين مسلمين وكفرة أو بين مسلمين وعلمانيين مع تسويق فهم خاطئ للعلمانية بأنها الكفر والخروج عن الإسلام، المشكلة ليست كذلك لأن الإسلام لم يكن غائبا يوما عن المجتمع الفلسطيني وحتى عن النظام السياسي والممارسة السياسية ،فالميثاق الوطني الفلسطيني أكد على البعد الديني للصراع وعلى الانتماء الإسلامي للشعب الفلسطيني وكذا الأمر بوثيقة الاستقلال 1988 والقانون الأساسي للسلطة، هذا بالإضافة إلى أن قادة منظمة التحرير وحركة فتح لهم خلفية إسلامية وكان خطابهم وطنيا إسلاميا ومن يعرف هؤلاء القادة يدرك أن الإسلام والبعد الإسلامي كان حاضرا وموجِها لنهجهم وسلوكم السياسي ولكن ضمن رؤية عقلانية وفي إطار المشروع الوطني.
لا ندري إن كانت حركة حماس تدرك بان من يدعمها من الدول والزعماء إنما يوظفون تأييدهم لحركة حماس ليس بالضرورة خدمة لمشروع إسلامي بل لخدمة مصالحهم ونظامهم ودولهم الوطنية، وسواء كانوا يدرون أم لا فإن سياستهم تصب في خدمة مخططات خارجية لتدمير المشروع الوطني الفلسطيني، فلا نعتقد أن قادة الدول التي تدعم حركة حماس بلا حدود يريدون إقامة الخلافة الإسلامية.
لذا ما نتمناه من المنتمين للإسلام السياسي في فلسطين،أن يكون الإسلام السياسي دعما للمشروع الوطني وليس نقيضا وبديلا له والمشكلة في فلسطين ليس بوجود حركة حماس فهي جزء أصيل من حركة المقاومة ومن الشعب ، بل المشكلة بما يُمارَس عليها من تأثيرات خارجية لإخراجها من الإطار الوطني،كما أن المشكلة ليس أن نكون مسلمين أو لا نكون لان الإسلام متأصل فينا منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة- كما سبق الذكر في المحور الأول- ،المشكلة في كيفية توظيف الدين في معركة التحرر الوطني لإنجاز المشروع الوطني دون رهن البعد الديني بمشاريع بعض جماعات الإسلام السياسي والمحاور الخارجية المغامرة سياسيا والغامضة والملتبسة دينيا.
ليت حركة حماس تتعظ مما يجري في مصر من صدامات مرشحة للتحول لحرب أهلية بسبب غياب التوافق على ثوابت ومرجعيات وطنية بين التيار الإسلامي والقوى الوطنية من علمانية وديمقراطية فكيف في حالة كحالة الشعب الفلسطيني الواقع ما بين مطرقة الاحتلال وسندان الأجندة والمشاريع الخارجية.العمل الوطني يعني وجود تحديات ومهام وثوابت وطنية تحتاج لمعالجات وطنية، بمعنى أن القرار بهذه الأمور يجب أن يكون قرارا وطنيا لا يخضع لأي مرجعية خارجية حتى وإن كانت دينية، فلا يمكن أن تكون وطنيا وقرارك خارج الوطن،وهذا يتطلب (توطين) الجماعات الإسلامية سياسيا لا دينيا ، بمعنى أن تصبح حركة حماس والجهاد الإسلامي وغيرها من جماعات الإسلام السياسي جزءا من المشروع الوطني لا أن يُلحق المشروع الوطني بأجندة هذه الجماعات الإسلامية وخصوصا الأممية منها كجماعة الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة.

ثالثا :المشروع الوطني الفلسطيني كبش فداء صعود الإسلام السياسي

قد يقول البعض إن تزامن صعود الإسلام السياسي وسيطرته على الحكم في أكثر من بلد عربي من خلال ما يسمى (الربيع العربي) مع السياسة الأمريكية للهيمنة على الشرق الأوسط من خلال مشروع الشرق الأوسط الكبير وسياسة (الفوضى الخلاقة ) مع حالة الانقسام الفلسطينية يعود للمصادفة البحتة، وبالتالي لا يوجد رابط يربط بينها وأية محاولة للربط بينها وتصوير الأمر وكأنه مخطط إنما يندرج في إطار فكر ونظرية المؤامرة.
نعتقد أن شواهد الواقع وما يتوفر من معلومات يؤكد وجود هذا المخطط الذي يعرفه كثيرون من أصحاب القرار وبعضهم يشارك فيه بوعي ولكنهم يخفون الحقيقة عن الشعب حتى لا تتضرر مصالحهم وتتزعزع مواقعهم .كما أن نظرية المؤامرة التي يتذرع بها كل من يخشى الحقيقة جزء أصيل من الحياة السياسية المعاصرة وهي جوهر وقلب السياسة الواقعية التي تؤسس على القوة والمصلحة والتفاهمات والاتفاقات غير المعلنة . ساذج من يعتقد أن كل سياسات الدول وخصوصا الكبرى تقوم على الشرعية الدولية والقانون الدولي والاتفاقات المعلنة ، فما هو خفي من هذه السياسات أكثر مما هو معلن.
إن صعود الإسلام المعتدل كان على حساب تراجع بل وضرب الإسلام المتطرف وأن هدف الغرب وخصوصا واشنطن من دعمها لجماعة الإخوان ليس لأنها تعتقد أن هذه الجامعة ستؤسس نظاما ديمقراطيا وتحقق التنمية بل لإدراكها أنها ستفشل في قيادة البلاد وبالتالي ستحدث حالة (الفوضى البناءة) التي بشرت بها واشنطن منذ 2004 . لم يعد مجال للشك أن الانقسام الذي يؤسس لإمارة أو دولة غزة كان جزء من الإستراتيجية التي اشرنا إليها وانجاز متقدم لما يسمى (الربيع العربي)،إلا أن سقوط أو إسقاط حكم الإخوان في مصر سيؤثر بشكل خطير على مستقبل حكم حماس لقطاع غزة ،وكما دفع الفلسطينيون ثمن صعود الإسلام السياسي سيدفعون ثمن سقوطه السريع.
لقد دفع الفلسطينيون ثمن وصول وإيصال الإسلام السياسي المعتدل– خصوصا جماعة الإخوان المسلمين- للحكم في إطار أكبر تخطيط استراتيجي غربي /إسلام سياسي عبر التاريخ ، تشارك فيه حركة حماس باعتبارها امتداد لجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين . إن كانت مؤشرات التنسيق بين الطرفين تعود لسنوات خلت حيث بداياتها مع العلاقة الخاصة التي ربطت جماعة الإخوان المسلمين في بداية ظهورها مع مراكز القرار الإستراتيجية في بريطانيا ثم تواصلت مع واشنطن وحلف النيتو منذ خمسينيات القرن الماضي لمواجهة الخطر الشيوعي في المنطقة،إلا أن أهداف هذا التحالف تغيرت من مواجهة الخطر الشيوعي إلى مواجهة خطر الإسلام المتطرف ومنه إلى السيطرة الإستراتيجية الكاملة على المنطقة من خلال الفوضى.وعليه فهدف تحالف الغرب /الإخوان المسلمين يتجاوز إسقاط أنظمة دكتاتورية أو تأسيس أنظمة ديمقراطية.
إن كان من حق الشعوب العربية السعي للديمقراطية والتخلص من الدكتاتورية ،ومن حقها قبول الدعم من أي جهة كانت واختيار شبكة علاقاتها وتحالفاتها،كما من حق جماعات الإسلام السياسي المشاركة في الحياة السياسية وتولي السلطة ما دام الشعب اختارها،فإن أهداف واشنطن من وراء دعم الحراك الشعبي العربي تتجاوز نشر الديمقراطية في العالم العربي بل وتتجاوز مواجهة الإسلام المتطرف والإرهاب كما كان مرسوما في البداية. هذه أهداف جزئية أو مرحلية لخدمة هدف أكبر.واشنطن توظيف فزاعة التطرف الإسلامي لتحقيق أهداف أكبر من القضاء على الإرهاب، ولا نستبعد أن جزءا كبيرا من العمليات الإرهابية التي تقوم بها جماعات يُقال إنها منتمية للقاعدة موجهة بطريقة غير مباشرة من أجهزة المخابرات الأمريكية والإسرائيلية التي اخترقت هذه التنظيمات،حتى يجوز القول إن لواشنطن ولإسرائيل (تنظيم قاعدة) خاص بهما .
ما يجري اليوم في العالم العربي والشرق الأوسط سيعيد ترتيب الأوضاع الجيوسياسية في المنطقة على عدة مستويات أهمها أنه سيجعل المنطقة العربية والشرق الأوسط كله منطقة نفوذ لواشنطن ولحلف الناتو ولإسرائيل، من خلال تجديد أنظمة الحكم والتحالفات في المنطقة بما سيعزز ويؤمن مصالح الغرب لسنوات قادمة،وهي سيطرة ستؤدي أيضا لتعزيز مكانة الغرب في صراعه الاستراتيجي مع منافسيه وخصومه الدوليين الحاليين والمستقبليين كروسيا والصين وأية قوة اقتصادية أو عسكرية صاعدة،ومع إيران إن ساءت العلاقة بينهم. لو اقتصرت نتائج هذه الإستراتيجية أو المعادلة الجديدة في المنطقة على إسقاط بعض الأنظمة الدكتاتورية التي انتهت صلاحيتها لهان الأمر وربما وجدنا عذرا لقوى الإسلام السياسي في التنسيق مع واشنطن، إلا أن الخطورة أن هذه الإستراتيجية تستهدف القوى التحررية و الوطنية والقومية والديمقراطية الحقيقية وتستهدف المشروع الوطني التحرري الفلسطيني سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر.
وهكذا من ليبيا إلى مصر مرورا بتونس وسوريا فإن حركات الإسلام السياسي، التي وصلت إلى السلطة أو شاركت فيها أو تسعى لها، تشارك بوعي أو بدون وعي بجريمة التضحية بالمشروع الوطني الفلسطيني مقابل وصولها إلى السلطة. صحيح أن المشروع الوطني بشقيه المقاوم والمفاوض كان يمر بمأزق بسبب التعنت الإسرائيلي والتواطؤ الأمريكي والتخاذل العربي بالإضافة إلى فشل وعجز السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية عن القيام بواجباتهم الوطنية،إلا أن الفلسطينيين والشعوب العربية لم تكن تنتظر من يطلق رصاصة الرحمة على المشروع الوطني بل كانوا يأملون أن سقوط زعماء تأمروا على الفلسطينيين وتاجروا بقضيتهم سيؤدي لإنقاذ المشروع الوطني الفلسطيني واستنهاض حالة شعبية ورسمية عربية مناهضة لإسرائيل وحلفاء إسرائيل وخصوصا واشنطن، ويأملوا التراجع عن كل الاتفاقات والتفاهمات والعلاقات التي كانت تربط العرب بإسرائيل،وكذلك إعادة النظر بالتحالف الأمني والعسكري مع الغرب وإعادة النظر بالقواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة،كل ذلك تمهيد لإعادة تشكيل دول الطوق حول فلسطين ووضع إستراتيجية لتحرير الأراضي العربية المحتلة عام 1967 إن لم يكن أكثر من ذلك . أليس هذا هو الحلم العربي طوال العقود الموالية لهزيمة 48 ؟ وما قيمة ربيع عربي أو ثورات عربية إن لم يتم رد الاعتبار للإهانة التي لحقت بالعرب عام 67 ؟.
مع كامل الاحترام والتقدير للشعوب العربية التي قامت بالثورة فإن سقوط الحكام المستبدين لم يكن فقط بفعل الحراك الشعبي بل نتيجة دخول أطراف أخرى على خط الثورة ،أطراف داخلية – جماعات إسلامية وخصوصا جماعة الإخوان المسلمين – وأطراف خارجية –واشنطن وحلف الناتو– .أطراف تلاقت مصالحها لتوجيه الأمور ضمن معادلة جديدة يتم تخريجها وكأنها انتصار للثورة. ما كان لجماعة الإخوان المسلمين أن تصل للسلطة أو تشارك فيها لو لم تكن تفاهمات مسبقة بينها وبين واشنطن على عدم الإخلال بالوضع القائم بين إسرائيل والعرب،أيضا أن تشجع جماعة الإخوان المسلمين حركات المقاومة الفلسطينية التابعة لها على تهدئة الأوضاع مع إسرائيل. ومن هنا نلاحظ أن كل قوى المعارضة (الإسلامية) وخصوصا إخوان مصر أرسلت رسائل مزدوجة ،رسائل لواشنطن بأنها غير معادية للغرب ولمصالحه وتواجده في المنطقة ،والكل تابع الاتصالات والزيارات التي قام بها ممثلون عن هذه الجماعات للسفارات الأمريكية في بلدانهم ولواشنطن ولعواصم الغرب للتنسيق معها وطمأنتها على التزامها بمصالحها في المنطقة ،أيضا أرسلت هذه الجماعات رسائل عبر واشنطن وعبر ممثلي اليهود في واشنطن لإسرائيل بأنها تحترم الاتفاقات الموقعة معها وبالتالي تستمر باعترافها بوجود إسرائيل.
مما لا شك فيه أن الوضع في دول ما يسمى (الربيع العربي) قد أنكشف بسرعة سواء من خلال ما يجري في مصر أو تونس أو ليبيا ولن نتوسع في ما يجري في هذه البلدان لأن الشعوب العربية هي المعنية بتقييم والحكم على هذا التغيير سلبا أو إيجابا، كما أنها صاحبة الحق في اختيار نظامها السياسي وتوجهاته السياسية والأيديولوجية ، ونحن مع إرادة الشعوب العربية .ما يعنينا كفلسطينيين أن لا ندفع ثمن الصراع على السلطة وعلى تقاسم النفوذ في العالم العربي ،ما يعنينا وما يجب عدم السكوت عنه أن تستمر النخب والحركات السياسية العربية في توظيف قضيتنا ومعاناة شعبنا كأدوات للوصول إلى السلطة وتتكرر تجربتنا مع القوى والأنظمة القومية والثورية التي صادرت قضيتنا وقرارنا المستقل لأربعة عقود ،فانتكست وانتكست قضيتنا معها. لا نريد أن نخرج من سطوة أنظمة مستبدة تاجرت بالقضية وساومت عليها تحت شعارات وأيديولوجيات قومية ووطنية وثورية الخ ، إلى أنظمة وحركات إسلام سياسي تضحي بالمشروع الوطني الفلسطيني وبحقنا في دولة مستقلة تحت شعار المشروع الإسلامي أولا، أو تبرير مهادنتها وتحالفها مع واشنطن وإسرائيل بضرورات بناء الوضع الداخلي أولا.
أليست مفارقة خطيرة تسترعي التوقف عندها أنه في زمن ما يسمى بالربيع العربي يتزايد النفوذ الأمريكي والغربي في المنطقة العربية بحيث لم تعد ولو دولة واحدة خارج إطار هذا النفوذ ، وأنه في زمن ما يسمى بالربيع العربي يزداد الاستيطان الإسرائيلي والتهويد في الضفة والقدس وتدنيس المقدسات بشكل غير مسبوق ،كما يزداد الوضع المالي والاقتصادي تدهورا ، بل وتوقفت حتى الجهود العربية لإتمام المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام.

خاتمة
مهما تفاقمت الخلافات بين القوى الوطنية الفلسطينية وجماعات الإسلام السياسي فأن ذلك يجب أن لا يغير من طبيعة وأطراف الصراع في فلسطين حيث ستبقى الصهيونية ومشروعها الاستيطاني الاستعماري – إسرائيل- العدو الأول للشعب الفلسطيني ،العدو الذي يجب أن تتوحد كل الجهود لمحاربته بما هو متاح من وسائل،أما الخلافات الداخلية وحتى وإن كانت خطيرة وتصل لمرحلة الصدام الدموي فيجب أن تبقى ضمن الخلافات الثانوية .لا يجوز أن نغير طبيعة الصراع من صراع عربي إسرائيلي لصراع وطني إسلامي،كما لا يجوز تغيير أطراف الصراع بحيث تحل دولة أو تنظيم إسلامي محل الكيان الصهيوني.
بالرغم من التداعيات الخطيرة للانقسام ولممارسات حركة حماس ومراهناتها على أطراف خارجية بدلا من المراهنة على الوطنية والمصالحة، وبالرغم من الضربة القاصمة التي أصابت حركة حماس بعد انكشاف وهم الربيع العربي وسقوط حكم الإخوان في مصر،إلا أن حركة حماس تبقى جزءا من الحالة السياسية الفلسطينية ولا يمكن كما لا يجوز إقصاءها نهائيا من المشهد السياسي ، بل مطلوب أن تستمر وغيرها من الجماعات الإسلامية ولكن مع توظيف عقلاني للدين في إطار إستراتيجية وطنية فلسطينية لمواجهة إسرائيل العدو المشترك لكل الفلسطينيين .
وأخيرا وإن كنا نتحدث بالتعميم أحيانا عن الجماعات الدينية في فلسطين إلا أن هناك تباينات بينها،وفي هذا السياق يجب التأكيد على تميز حركة الجهاد الإسلامي عن غيرها ،وفي ظني وبالرغم من علاقاتها المتميزة مع إيران وعلاقاتها الطيبة مع حركة حماس،إلا أن الجهاد الإسلامي اقرب للتيار الوطني الإسلامي وأكثر تأهيلا لتوطين أيديولوجيته لتصبح جزءا من الوطنية الفلسطينية الشاملة أو الدخول في تحالف مع التيار الوطني .

تعديل / حذف
الاخبار العاجلة
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لمنحك أفضل تجربة ممكنة.
موافق